اختلفت الأدبيات السياسية وما تزال في تحديد مفهوم دقيق لما يسمى بالمجتمع المدني والادوار المنوطة بعهدته في ظل الانظمة السياسية الحديثة… وهل أن العلاقة بين المجتمع المدني والدولة هي علاقة تصادم ـ بالضرورة ـ أم هي علاقة تشاركية… وبالضرورة أيضا…؟
لقد حسمت الانظمة الديمقراطية ـ في الواقع ـ هذا الاختلاف ـ نسبيا ـ لأسباب في علاقة بطبيعة هذه الانظمة ذاتها وفي علاقة ـ أيضا ـ بالبيئة الثقافية والفكرية والسياسية والقيمية التي نشأ فيها هذا الكيان الذي نسميه «مجتمعا مدنيا» ويضم في مكوناته كل المنظمات والجمعيات والاحزاب السياسية المدنية…
وتعتبرالأنظمة الديمقراطية «المجتمع المدني» شريكا لها وحزامها القويّ في مواجهة مخاطر الداخل والخارج وحصانتها في مقاومة الفساد والجريمة ولكل مظاهر الانحراف داخل المجتمع… اضافة الى الادوار الكبرى التي يمكن لهذه الكيانات المدنية ان تقوم بها وخاصة في المجال الاقتصادي والتجاري والصناعي والاستثماري عموما… ونحن نتحدث هنا عن المنظمات الكبرى القطاعية والتي تمتلك من الامكانيات المادية ومن الخبرات ما يؤهلها لاسناد الدولة في مشاريعها المجتمعية وفي مقاومة الاحتكار والمضاربة في أسواق العرض والطلب على غرار منظمة الاعراف التي استقبل رئيس الجمهورية رئيسها السيد سمير ماجول بعد غياب أو انسحاب لأسباب تهم المنظمة في علاقتها بمنظوريها..
خلاصة القول… ليس المجتمع المدني كيانا معارضا للدولة ولاختياراتها وإنما هو «حصنها الحصين» ـ ان جاز القول ـ والذي يمكن التعويل عليه لتحقيق تواصل حقيقي بين المجتمع والدولة بل هو الوسيط الضروري الذي يصل الوصل بين الطرفين في الازمات الاجتماعية كما في الرخاء الاجتماعي…
وبمعنى أكثر دقة ووضوح فإن الدولة في حاجة دائمة الى مجتمع مدني قوي وذي مصداقية عالية حتى لا تجد نفسها في حوار مباشر أو في مواجهة مباشرة مع قضايا المجتمع… فالوسيط ـ هنا ـ ضروري وخاصة في الازمات أو عند استفحال ظواهر الانحراف كاستهلاك المخدرات ـ مثلا ـ «فالمجتمع المدني» هو الذي يتحرّك في مثل هذه الاحوال وقبل ان تستعمل «الدولة» قوتها الصلبة.
وكما يعلم الجميع فإن وجود المجتمع المدني في تونس هو وجود راسخ وعريق… فمنذ تاريخ التأسيس الى حدّ التأصيل وما بينهما ثمّة ما يقارب القرن تقريبا كما يذكر المؤرخون بحيث تأسست أولى الجمعيات التونسية أواخر القرن التاسع عشر وقد كان للحراك الجمعياتي ما قبل الاستقلال دور كبير في كل عمليات الاصلاح والبناء والتحديث.
ثمّ تم احتواؤه بكل مكوناته زمن الحكم البورقيبي ـ مع استثناءات قليلة ـ وتم احتواؤه ـ تماما ـ زمن بن علي ثم نهض وانفجر مع «الانفجار الثوري» واستعاد مكانته وكان له دور كبير في الانتقال الديمقراطي ما بعد الثورة وفي كل المجالات ـ تقريبا ـ حيث اشتبكت المكونات الحزبية بالنقابية بالحقوقية وكان المناخ السياسي ـ ما بعد الثورة ـ مواتيا لهذا «الانفجار» .. وجاءت من بعد ذلك الجمعيات الدعوية والقرآنية والخيرية وكانت ـ كما يعلم الجميع ـ الحديقة الخلفية لحركة النهضة واستعملتها في دعم المدّ السلفي الارهابي ما أفسد المناخ العام وما أفقد «المجتمع المدني» ما كان يحظى به من مصداقية لدى الرأي العام الوطني وكلّنا يعلم ما حدث في تلك المرحلة من مظاهر اجرامية وانحرافية باسم «العمل الجمعياتي» الى ان حدث ما حدث بعد اطلاق المسار السياسي للرئيس قيس سعيد في 25 جويلية 202١ حيث تم اطلاق عملية «تطهير كبرى» داخل المشهد السياسي اسقطت كل الانتهازيات التي كانت تعمل تحت الغطاء الجمعياتي الحقوقي أو النقابي بما أعاد ترتيب المشهد الذي بدأ في استعادة ما فقده من حيوية كانت تميّز «المجتمع المدني» أو بعض مكوناته ونحن نعتقد ان استقبال رئيس منظمة الاعراف سمير ماجول من قبل الرئيس قيس سعيد في هذه الفترة المبكرة من العهدة الرئاسية الثانية إنما هو بداية انفتاح على مكونات المجتمع المدني المرجعية والتي ما تزال تحظى بنوع من المصداقية لدى الرأي العام الوطني ولدى منظوريها ـ أيضا ـ من «الاعراف» وفي ذلك أيضا اعادة تنشيط لادوار هذه المنظمة العريقة التي انسحبت من «الشأن الجاري» ولم نعد نسمع لها صوتا أو موقفا في حين يعتبر تحركها في مثل هذا التوقيت مهما وضروريا لذلك دعا قيس سعيد رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية «الى الانخراط الكامل في معركة التحرير الوطني بالتخفيض أولا في الاسعار» مؤكدا على أن «معاضدة مجهودات الدولة بل والمساهمة في بناء تاريخ جديد لتونس محمولان على الجميع كل من موقعه» وهنا دعوة مباشرة وواضحة للمجتمع المدني حتى يستعيد أدواره التقليدية وبالتالي المساهمة في بناء تونس الجديدة ما يؤكده قوله «المساهمة في بناء تاريخ جديد لتونس محمول على الجميع كل من موقعه» ومنظمة الاعراف واحدة من المكونات المرجعية التي يمكن التعويل عليها لاسناد جهود المسار السياسي الذي يسعى لارساء «دولة اجتماعية عادلة» يستدعي قيامها مقاربة اقتصادية جديدة متوازنة تضمن التعايش ـ كما ورد في الدستور ـ بين القطاعين العام والخاص وهذا لن يحدث بمعزل عن «الأعراف» بل بحضورهم وبإسنادهم القوي لمعركة «التحرير الوطني…» بكل عناوينها وعنوانها الابرز اقتصادي واستثماري بامتياز…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…