2024-10-31

معضلة الأسعار تأبى التراجع والانفراج : هل استعصت الأسواق على أجهزة الدولة والرقابة؟

لا يبدو أن هناك حلولا قريبة لمعضلة الأسعار التي تتجه منذ سنوات في اتجاه واحد، وتأبى التراجع او حتى الاستقرار، بل أصبحت في أحيان كثيرة أشبه بالكوميديا السوداء، التي لا تؤرق المواطن فحسب، بل تصعّب الحلول على الدولة وعلى المنظومة المالية وعلى كل مناحي الجانب الاقتصادي، الذي لا يمكن تحريكه في ظل جنون اسعار منفلت، لا يعرف أحد من الذي يحركه، ولا كيفية التحكم فيه.

كثير من الخبراء، وهم عادة من يأخذون مسافة من الحكومة والحكم، يرجعون المسألة الى حل “سحري” بنظرهم يقوم على نظرية (استورد البضائع بكميات كبيرة ستنزل الاسعار آليا) لكن هذا المفهوم وان كان يصح في بلدان أخرى الا انه في تونس سيزيد حتما في ارتفاع الأسعار حتى لو أغرقنا الأسواق بكميات هائلة من كل بضاعة.

فكل مادة تعلن وزارة التجارة عن جلب كميات منها، سرعان ما تختفي من الاسواق، وأحيانا حتى في الطريق الواصلة بين الميناء والمخازن، وتتحول بقدرة قادر الى سلعة نادرة وغير موجودة، وتُضرب مصداقية الدولة وهياكلها التي سبق ان طمأنت المستهلك بان البضاعة قد وصلت او في طريقها الى الاسواق، ووعدته بتعديل الاسعار ومراعاة الظروف.

وهذا الشكل المافيوزي من السيطرة الخفية على  مسالك التوزيع والترفيع المستمر في الاسعار، (ولا نقول التحكم في الاسعار لان هؤلاء الذين يبيعون لم يعدّلوا الاسعار ولو مرة واحدة، بل فقط هي تسير باتجاه واحد، الى الاعلى) يفسره الخبراء القريبون من الحكومة بنظرية المؤامرة، ويعتبرون أن هناك أطرافا خفية تتحكم في الاسواق لغايات سياسية، وهو تفسير لا يجد أيضا كثيرا من الرواج لدى العامة،خاصة وان المنطق يقول ان لا طرف سياسي، حزب او منظمة، يمتلك هذه القدرة الرهيبة التي تجعله يسيطر لوحده على الاسواق وعلى هذه الكمية المهولة من البضائع والتجارة والاموال.

أما الرقابة، سواء التي تعود بالنظر الى وزارة التجارة ودواوينها، او تلك التي تعود الى وزارتي الصحة والداخلية، وحتى البلديات والاجهزة الامنية في بعض المناطق، فانها لم تستطع الى حد الان ان تفرض سعرا موحدا على أي بضاعة، رغم الجهود المضنية التي تبذلها، ورغم ما تدفعه من دعم أحيانا يصبح خياليا، من أجل ان توفر سلعة معينة بسعر موحد في مقدرة المستهلك العادي ان يتناوله، لكنها سرعان ما تتحول بشكل غير مفهوم وأشبه بالخيال الى سلعتين من نفس البضاعة، واحدة تباع بالسعر الذي قررته الوزارة، والاخرى بجانبها بالسعر الذي قرره التاجر رغم انهما من نفس البضاعة ومن نفس الحمولة والشحنة تقريبا، وبمرور يوم او يومين يختفي الجزء الذي سعرته الدولة، ويبقى فقط مهيمنا الجزء الذي حدد سعره التجار، وتعود الامور الى ما كانت عليه في لمح البصر ولا يلحق المواطن على أي بقايا من السلعة التي وضعتها الدولة وحددت سعرها الدولة ووعدته بها الدولة.

هذا التغوّل الغريب في سلوكات بعض التجار، وهذا الاستقواء على قرارات الدولة وهذه الهيمنة المطلقة التي يفرضها البعض على السلع والاسواق، لم تستطع كل حملات المراقبة ان تحد منها، ولم تقدر الاحكام القضائية والحملات الامنية في القضاء عليها، ولا يبدو انه سيقع وضع حد لها في القريب، ذلك انها تستقوي وتتمدد كل يوم، الى درجة أصبحت بعض الاسعار اشبه بالخيال الذي لم يكن يخطر ببال أحد، وأسعار بعض المواد والسلع والخدمات تضاعف بعضها أكثر من عشرين مرة في ظرف سنوات قليلة، رغم التحذيرات ورغم التشريعات العقابية التي تسلط على المتلاعبين بالاسعار.

وعلى ما يبدو فان الكلام عن معركة تحرير وطني، يبدو فعلا كلاما صحيحا ومعقولا خاصة تحرير الاسواق، وتحرير قفة المواطن ولقمة عيشه من هذا الاخطبوط الشيطاني الذي لا يعرف أحد من أين يبدأ وأين ينتهي، يبدو انه قد استقوى على الدولة، وصار أقوى حتى من كل الاجهزة الرقابية، وفوق كل القوانين والتراتيب، ويحتاج الى حرب حقيقية من أجل ان تستقر الاسعار على الاقل، لان الحديث عن تعديل السوق او تخفيض الاسعار، هو بدوره بات حديثا من الخيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

الاطمئنان على الصابة يبدأ الان : توفير البذور وجودتها.. الضمانة الحقيقية لأمننا الغذائي

مع بدء استعداد الفلاحين للحرث والبذر، بدأت الحركية تدب في الهياكل الفلاحية بمختلف أنواعها،…