بكل هدوء : نحو بناء اقتصاد وطني جديد
ينص الدستور التونسي على ان الدولة التونسية تضمن التعايش بين القطاعين العام والخاص، وهو تعايش لا يمكن ان يتحقق الا على أساس العدل والانصاف على حد تعبير رئيس الجمهورية اثناء استقباله مساء الثلاثاء الماضي السيد سمير ماجول، رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية.
ويعد التوجه نحو خلق توازن بين القطاعين العمومي والخاص في تونس خطوة جوهرية نحو بناء اقتصاد وطني مستدام يتسم بالمرونة والاستقلالية ويعزز من العدالة الاجتماعية. اذ يستند إلى فكرة مركزية، وهي أن الاقتصاد يجب ألا يكون خاضعًا لسيطرة رأس المال العابر للقارات واللوبيات المهيمنة على القطاع الخاص، والتي تتسم بطابعها الاحتكاري. بل يجب أن يعمل على تحرير الاقتصاد الوطني، مما يضمن توجيه ثروات البلاد نحو التنمية المستدامة والمتوازنة، التي تحمي حقوق العمال وتضع حدًا لاستغلال القوى العاملة.
وهو تصور جديد لحركية الاقتصاد التونسي، يرتكز على أن القطاع العمومي، رغم مشكلاته، ما يزال يحتفظ بدور حيوي في تقديم خدمات حيوية وبناء بنية تحتية ذات منفعة عامة (مثل التعليم والصحة والنقل)، والتي لا ينبغي تركها بالكامل في يد رأس المال الخاص. كما أن تمكين القطاع العمومي يساهم في حماية الاقتصاد من التأثر الزائد بالتقلبات الخارجية. من جهة أخرى، يعزز للقطاع الخاص الابتكار ويوفر له فرصا للعمل ويزيد من الكفاءة، مما يستدعي التوفيق بين القطاعين بشكل متوازن. ويساهم هذا التوازن في تقليل هيمنة رأس المال العابر للحدود، ويحول دون استنزاف الموارد المحلية لصالح شركات أجنبية، عبر وضع ضوابط وقوانين تسعى لحماية سيادة الاقتصاد الوطني وتعزيز العدالة الاجتماعية.
وللنجاح في هذا التوجه، وجب تطبيق مجموعة من الآليات التي تساعد في تحقيق الأهداف التنموية المتوخاة، وتشمل:
اصلاح القطاع العمومي بتطوير كفاءة المؤسسات العمومية والحد من الفساد وسوء الإدارة اللذين يعوقان قدرتها على تحقيق أرباح مستدامة وفعالية عالية في تقديم الخدمات. وهو ما يتطلب أيضًا، وضع معايير تقييم أداء صارمة، وإعادة هيكلة الموارد البشرية والإدارية، بهدف تحقيق الشفافية والمساءلة.
دعم القطاع الخاص المحلي الذي يتطلب تشجيع احداث المشاريع الصغيرة والمتوسطة المحلية، عبر توفير بيئة أعمال مشجعة ومنصفة من خلال تسهيلات ضريبية وخدمات استشارية، بما يجعل منافستها فعالة أمام الشركات الكبرى ويساعد على خلق فرص العمل.
سنّ قوانين صارمة ضد الاحتكار تمنع هيمنة الشركات الكبرى على السوق المحلية وتعزز المنافسة وتحد من الاحتكار، مما يوفر مناخاً ملائماً لظهور لاعبين جدد في السوق، ويقلل من تحكم اللوبيات في القطاعات الاقتصادية الرئيسية.
تشجيع الشراكات بين القطاعين الخاص والعمومي وتمكينهما من التعاون في قطاعات معينة مثل البنية التحتية والطاقة والصناعة، بما يخدم المصلحة العامة. وهوما من شأنه أن يجمع بين قدرات القطاع العمومي التمويلي والإشرافي وإمكانات القطاع الخاص في الإدارة الفعالة.
حماية حقوق العمال من خلال تطوير قوانين عمل فعالة تضمن حماية حقوق العمال وتوفير شروط عمل عادلة، سواء في القطاع العمومي أو الخاص، وتفعيل دور النقابات العمالية النشطة والمستقلة حتى تراقب عن كثب شروط التوظيف وتقديم الشكاوى عند الضرورة.
من خلال ما تقدم يبرز أن هذا التصور ليس مجرد عملية اقتصادية بحتة، بل هو عملية سياسية واجتماعية عميقة تهدف إلى تقليل الفجوة بين الفئات الغنية والفقيرة وضمان توزيع أكثر عدالة للثروات، مع تعزيز الحماية الاجتماعية. من هذا المنطلق، يعمل هذا التوجه على دمج الاقتصاد الاجتماعي ضمن السياسات التنموية، بحيث يتم التركيز على المشاريع التي تخدم المصالح الوطنية، وتقليل الاعتماد على الاستثمارات الخارجية في القطاعات الحساسة.
تبقى إمكانية نجاح هذا التوجه مرتبطة بتوفر إرادة سياسية قوية ودعم شعبي، فضلًا عن نظام قانوني فعال يضمن التطبيق العادل للسياسات. كما يتطلب نجاح هذا النموذج الاقتصادي الاندماج بين القطاعين بطريقة تجعل كلًا منهما مكملًا للآخر. لكن، هناك تحديات قائمة تتطلب التغلب عليها، مثل الفساد المالي والإداري، والضغوط التي قد يمارسها رأس المال العابر للقارات، الذي يمكن أن يعوق السياسات الجديدة، ما لم تُحصّن القوانين بشكل كافٍ لحماية المكتسبات الوطنية.
ومهما يكن من أمر فان هذا التصور الجديد للاقتصاد التونسي يمثل توجّها نحو خلق توازن بين القطاعين العمومي والخاص في تونس من اجل الوصول الى بناء اقتصاد وطني مستقل ومستدام، يلبي احتياجات المجتمع دون الخضوع للضغوط الخارجية. ويبقى النجاح مرهونًا بالقدرة على إصلاح القطاع العمومي، ودعم القطاع الخاص المحلي، وسن قوانين تضمن حماية المنافسة وحماية العمال، كل ذلك في إطار رؤية اقتصادية وطنية شاملة تسعى نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلالية الاقتصادية.
للقطع مع ممارسات الماضي ومؤسساته : تونس ورؤية الهدم وإعادة البناء
تواجه تونس اليوم خياراً استراتيجياً في مسارها التنموي يتمثل في كيفية إعادة بناء الدولة وتح…