2024-10-24

عن الحوكمة في إدارة الموارد المائية : نزول الأمطار لا يجب أن ينسينا التحديات المناخية

دائما يمثل نزول الامطار في تونس فأل خير، لأنه يشعر الجميع بالراحة النفسية خاصة إذا كان بعد سنوات طويلة من الجفاف وشح المياه. لكن الواقع أن كل الملاحظين والخبراء يقولون ان تونس تواجه، كسائر دول العالم، أزمة متفاقمة في الموارد المائية، حيث أصبحت ظاهرة شح المياه الصالحة للشرب تهديدًا جديًا للحياة البشرية والحيوانية والنباتية، كما تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

في السنوات الأخيرة، شهدت تونس تقلصًا كبيرًا في نسبة الأمطار واحتباسها، بالإضافة إلى انخفاض مخزون المياه في السدود بشكل مقلق (حسب الاحصائيات الرسمية وصلت نسبة التعبئة في السدود الى 22 %)، واستنزافها نتيجة الاستهلاك المتزايد وغياب سياسات مستدامة. ورغم وضوح هذه التهديدات، تصر بعض الاطراف في البلاد على التقليل من خطورة الأزمة لأسباب مختلفة، ونلحظ غيابا شبه كلي للوعي الجماعي بهذا التهديد وهو موقف يثير قلقًا كبيرًا حول ما سيحمله المستقبل إذا استمر هذا الإنكار.

الحقيقة الواضحة والجلية والتي لا يمكن انكارها، هي ان تونس تعاني منذ سنوات من تراجع كميات الأمطار التي كانت مصدرًا رئيسيًا لتغذية السدود والمخزون المائي الجوفي. هذا التراجع يتزامن مع تأثيرات التغير المناخي الذي يساهم في زيادة درجات الحرارة وتفاقم الجفاف، مما يجعل تونس واحدة من البلدان الأكثر عرضة لتداعيات الاحتباس الحراري في منطقة شمال إفريقيا.

وتثبت البلاغات الرسمية للجهات المختصة، ان نسبة المياه المخزنة في السدود التونسية تراجعت بشكل خطير، حيث وصل الانخفاض إلى مستويات غير مسبوقة، مما ينذر بخطر نقص مياه الري والشرب في المستقبل القريب. (تفيد مصالح توزيع مياه الشرب بالبلاد انه لن يكون ممكنا ضخ المياه الصالحة للشرب في الحنفيات إذا تراجعت نسبة امتلاء السدود الى 18 %).

وتعتمد كثير من المناطق في تونس على المياه الجوفية لتلبية احتياجاتها اليومية. ومع الاستخدام المفرط وغير المنظم لهذه الموارد، بدأت تظهر علامات استنزاف حادة في بعض المناطق، ما يجعل التجدد الطبيعي لهذه المياه عملية بطيئة وغير كافية.

كما انه مع تزايد عدد السكان وارتفاع الطلب على المياه للاستخدام الزراعي والصناعي، يتفاقم الضغط على الموارد المائية المحدودة، مما يزيد من تعقيد الأزمة.

كيف ذلك؟

إذا استمر الوضع الحالي دون اتخاذ إجراءات عاجلة، فإن المخاطر المستقبلية قد تكون كارثية على مختلف الأصعدة، أولها تهديد الأمن الغذائي، اذ مع تراجع المياه المستخدمة في الزراعة، سيتأثر إنتاج الغذاء المحلي بشكل كبير، مما يهدد الأمن الغذائي للبلاد ويزيد من الاعتماد على الواردات، وهو ما يفاقم العجز التجاري ويزيد من الأسعار.

ثانيا قد يدفع نقص المياه السكان في المناطق الزراعية إلى النزوح نحو المدن الكبرى، مما يزيد من الضغط على البنية التحتية والخدمات في تلك المدن.

ثالثا  شح المياه سيؤثر سلبًا على الغطاء النباتي، وسيزيد من التصحر، مما يؤدي إلى فقدان التنوع البيئي ويضعف قدرة الأراضي الزراعية على الإنتاج.

ولعله، وايمانا منا بالوظيفة التوعوية للإعلام، وجب التحدث عن المسألة بالشفافية اللازمة واقتراح استراتيجية عمل اعتمدتها العديد من الدول التي تعاني من المشكلة ذاتها. وهذه الاستراتيجية تفرض على تونس تبني مجموعة من السياسات والإجراءات العاجلة والمستدامة. هذه الحلول يجب أن تشمل جوانب متنوعة على المدى القصير والطويل لضمان تأمين المياه والحفاظ على استقرار البلاد.

أي ان هناك إجراءات عاجلة تتمثل في تحسين إدارة الموارد المائية الحالية بتبني تنظيم صارم لاستغلال المياه الجوفية، مع فرض ضوابط على حفر الآبار وضمان استخدام فعال للمياه في الزراعة والصناعة.

وإصلاح السدود اذ ان هناك حاجة ماسة اليوم لإجراء صيانة دورية للسدود الحالية لزيادة طاقتها في تخزين المياه وضمان عدم فقدان كميات كبيرة من المياه نتيجة التسرب أو ضعف البنية التحتية.

وتتمثل هذه الإجراءات العاجلة أيضا، في العمل على تقليل الفاقد او الخسائر من المياه في الشبكات المائية وذلك بتحسين وصيانة هذه الشبكات وتقليل الفاقد نتيجة التسربات من الأنابيب، خصوصًا في المناطق الحضرية، مما سيسهم في توفير كميات كبيرة من المياه الصالحة للشرب.

واهم اجراء عاجل، هو التشجيع المستمر على ترشيد الاستهلاك من خلال القيام بحملات توعية وطنية لتحفيز المواطنين والمزارعين على ترشيد استهلاك المياه والحد من الاستخدام المفرط لهذا المورد الحيوي.

اما الإجراءات او الحلول المستقبلية، فهي تبدأ بالاستثمار في تحلية مياه البحر الذي يعتبر حلا وقائيا لمواجهة الضغط المتزايد على الموارد المائية الطبيعية، وخيارًا استراتيجيًا لتأمين إمدادات المياه خاصة في المناطق الساحلية وتستمر باعتماد الزراعة المستدامة من خلال تطوير تقنيات زراعية تستهلك كميات أقل من المياه، مثل الزراعة بالتنقيط، والاعتماد على أصناف نباتية تتحمل الجفاف، بما من شأنه تقليل الضغط على الموارد المائية.

وكذلك بإعادة تدوير المياه من خلال إنشاء محطات لمعالجة المياه العادمة وإعادة استخدامها في الري والصناعة وهو آمر بات ضروريا لضمان توافر المياه للأنشطة الحيوية.

هذا دون ان ننسى ان تونس بحاجة إلى تعزيز تعاونها مع الدول المجاورة والمؤسسات الدولية لضمان إدارة مشتركة وعادلة للموارد المائية المشتركة في المنطقة، وللحصول على تمويلات ودعم تقني لمواجهة التحديات المائية.

خلاصة القول ان شح المياه في تونس ليس مجرد أزمة مناخية، بل هو تهديد شامل يطال كافة جوانب الحياة. وتجاهل هذه المشكلة ونسيانها كلما نزلت الامطار، سيؤدي إلى تفاقمها في المستقبل. الحل يكمن في تبني سياسات عاجلة ومستدامة تعتمد على التخطيط العلمي والتقني الفعّال، والتركيز على ترشيد استخدام الموارد المائية واستثمارها بطرق تضمن استدامتها للأجيال القادمة. فقط من خلال التعاون الوطني والإقليمي والدولي يمكن لتونس أن تتجاوز هذا التحدي وتحافظ على مستقبل آمن مائيًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

بكل هدوء : لماذا يحتاج المسؤول في تونس اليوم إلى الخضوع لتجربة «سيف دمقليس»؟

تحظى «وظيفة» أي مسؤول في الدولة بصفة عامة  بزخم خاص، فهي مبلغ حلم الكثيرين، إن لم نقل الأغ…