«البناء والتشييد» : من أجل تجسيم شعار المرحلة الى حقيقة على أرض الواقع…
بعد فوز الرئيس قيس سعيّد بولاية جديدة، وأدائه صباح أمس اليمين الدستورية تتجه أنظار الجميع نحو تحقيق إنجازات ملموسة تعكس معنى شعار «الشعب يريد البناء والتشييد» الذي رفع كعنوان للمرحلة القادمة. تأتي هذه الانتظارات في وقت تواجه فيه تونس تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية هائلة، ما يضع مسؤولية كبيرة على عاتق الرئيس وأنصاره لتحقيق مخرجات هذا الشعار وترجمته إلى واقع ملموس.
قبل الانتخابات، كانت الرهانات أمام قيس سعيّد كبيرة، خاصة أن فترته السابقة كانت صعبة. ورغم الشعبية الكبيرة التي حافظ عليها بين شرائح واسعة من المجتمع، إلا أن الانتقادات تركزت على غياب تحسن حقيقي في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية. ورغم الدعوات للإصلاح، ما تزال البطالة مرتفعة، والتضخم يأكل من القدرة الشرائية للمواطنين، في حين تتفاقم الأزمة السياسية والاقتصادية. وبالتالي، يواجه الرئيس ضرورة تحقيق مكاسب محسوسة طال انتظارها.
و«البناء والتشييد» يجب ان يشمل عدة مجالات ان لم نقل كل مجالات الحياة في تونس، واولها الشأن الاقتصادي بما في ذلك مكافحة الفساد في مؤسسات الدولة وتحقيق الشفافية في إدارة الموارد العامة، والنهوض بالبنية التحتية المهترئة من خلال تعزيز الاستثمارات في تشييد الطرقات، والمواصلات العامة، والطاقة، بهدف خلق بيئة اقتصادية مشجعة للاستثمار. وتشجيع الاستثمار المحلي والاجنبي بالتركيز على خلق مناخ استثماري أكثر استقرارًا عبر تحسين القوانين وتسهيل الإجراءات البيروقراطية لجذب الاستثمارات المحلية والدولية.
وثاني هذه المجالات هو القيام بإصلاحات اجتماعية عاجلة تبدأ بالعمل على تقليص حجم البطالة والحد منها خاصة بين الشباب الحامل للشهادات العليا عبر برامج مكثفة لدعم ريادة الأعمال وتوفير فرص العمل من خلال مشروعات جديدة وتعزيز الصناعات الصغرى والمتوسطة. وتنتهي بالتركيز على إصلاح النظامين التعليمي والصحي، وهما من القطاعات الأساسية التي تعاني من نقص التمويل وسوء الإدارة. اذ ان تحسين جودة التعليم وزيادة فرص الوصول إلى خدمات صحية جيدة للجميع ستعزز من فرص التنمية المستدامة.
الإصلاحات السياسية هي ثالث هذه المجالات حيث تتطلب اللحظة إعادة بناء الثقة في المؤسسات لتحقيق «التشييد» السياسي، فمن دون إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة لا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي الذي يكون بإصلاح مؤسسات الدولة لتكون أكثر فعالية وشفافية، وإعادة تفعيل المشاركة السياسية والشعبية. اذ يُنتظر من الرئيس قيس سعيد داخليا وخارجيا تنفيذ إصلاحات دستورية تضمن استقرار النظام السياسي وتعزز الفصل بين السلطات وتحد من التأثير السلبي للنزاعات السياسية على إدارة البلاد.
أما رابع هذه المجالات التي تتطلب محاكاتها لشعار «البناء والتشييد» فهي التنمية الجهوية والمتوازنة بمعنى التحقيق الفعلي للعدالة الاجتماعية والجهوية الذي يبقى من أبرز الوعود التي رفعت منذ الثورة ورفعها كذلك سعيد، وتشمل عمليا انجاز مشروعات تنموية في المناطق المهمشة والمحرومة، لتقليص الفجوة الاقتصادية بين العاصمة والمناطق الداخلية. كما تفرض الحاجة التركيز على مشروعات تضمن استدامة الموارد الطبيعية وتخفيف الضغط على البيئة، من خلال مشاريع زراعية وصناعية تعتمد على الاقتصاد الأخضر.
لكن تحقيق هذه الإنجازات وملامسة شعار «البناء والتشييد» المرفوع يتطلب أولاً رؤية استراتيجية واضحة، وثانيًا تعبئة سياسية واجتماعية واسعة. ولعله لذلك، من المتوقع أن يعتمد قيس سعيد على أدوات تنفيذية جديدة من خلال حكومة قادرة على تنفيذ مشاريعه، وكذلك من خلال حشد الطاقات الوطنية للمشاركة في جهود الإصلاح. وتحتاج الحكومة المقبلة إلى وضع خطة وطنية ذات أهداف محددة وجداول زمنية لإنجاز الإصلاحات، وتوفر إرادة سياسية قوية لتنفيذ هذه الإصلاحات وتحدي الصعوبات.
وما من شك ان تونس تحتاج إلى دعم مالي وفني من المجتمع الدولي لتحقيق إصلاحاتها الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي الاعتماد على دعم المنظمات الدولية والمؤسسات المالية الكبرى لتمويل مشروعات البنية التحتية والتنمية المستدامة.
الأكيد ان سعيد اعتمد وسيعتمد في هذه المرحلة الجديدة على استراتيجية تحفيز قاعدته الشعبية التي لها هامش أكبر للتحرك والظهور، على المشاركة الفاعلة في عملية «التشييد»، من خلال تعبئة المجتمع المدني وإشراك الشباب في جهود الإصلاح.
في المقابل بات من الضروري تطوير آليات فعالة لإدارة النزاعات السياسية وضمان الاستقرار، لتتمكن الحكومة من تنفيذ المشاريع الموعودة.
فوز قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية أدخل البلاد في مرحلة جديدة، وهي التي أنهكتها الصراعات والتجاذبات وثقل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. ولا أحد ينكر الان ان أطيافا كبيرة من الشعب التونسي خاصة التي لا تهمها الرهانات السياسية باتت تنتظر آثارا ايجابية لهذه المرحلة على حياتها وتعلق آمالًا كبيرة في مخرجات ملموسة من «البناء والتشييد». ولكن، لتحقيق هذه الآمال، يتعين على قيس سعيد وعلى فريقه الحكومي مواجهة تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، وتنفيذ الإصلاحات التي طال انتظارها. وهذا يحتاج إلى تخطيط استراتيجي، وإرادة سياسية حقيقية، ودعم ومشاركة واسعة من جميع فئات المجتمع، لتكون مرحلة «البناء والتشييد» واقعًا ملموسًا وليست مجرد وعد انتخابي.
للقطع مع ممارسات الماضي ومؤسساته : تونس ورؤية الهدم وإعادة البناء
تواجه تونس اليوم خياراً استراتيجياً في مسارها التنموي يتمثل في كيفية إعادة بناء الدولة وتح…