منذ ما يزيد عن العقدين برزت الظاهرة بشكل ملحّ وأصبحت أكثر حدّة في السنوات الأخيرة بعد ان تنامت بشكل كبير وخطير ولكننا لم نفعل شيئا من أجل إيقاف هذا النزيف. نزيف ندفعه من خيرة أبنائنا ومن الذكاء التونسي الذي هو القيمة المضافة في هذا البلد.
نحن هنا قطعا نتحدث عن ظاهرة هجرة الأدمغة وآثارها السلبية اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.
فقد استفحل الأمر منذ فترة ما بعد الثورة فبالتوازي مع الهجرة السرية ثمة هجرة نظامية ورسمية لكنها بمثابة السرقة الموصوفة لصفوة هذا المجتمع حتى اصبح بعض الظرفاء يتندّرون بهذه الظاهرة عقب نتائج الباكالوريا بالقول ان الأوائل سيغادرون على متن الطائرة اما من لم يسعفهم الحظ فهم سيرحلون عبر البحر في اختزال عميق لواقع تراجيدي بامتياز.
ولعل أبرز سمات هذه الظاهرة الخطيرة هي أنّ المعطيات المتصلة بها تفتقر الى الدقة من ناحية والى التحيين من ناحية أخرى. فالأرقام الرسمية غالبا ما تكون متصلة بالعقود التي يتم إبرامها عن طريق وكالة التعاون الفني بينما هناك عدد كبير جدا من الكفاءات النوعية يهاجر عن طريق عقد عمل فردي او عن طريق تربص وغيرها من الصيغ التي تتيح الشغل خارج حدود الوطن دون ان تكون معلومة وموثقة من طرف السلطات الرسمية.
هنا نحن أمام وضعية بالغة التعقيد يتقاطع فيها الاجتماعي بالاقتصادي والسياسي وتداعياتها أخطر مما نتصور ويكفي هنا ان نعرف ان المستشفيات العمومية في تونس تشهد نقصا على مستوى الاطار الطبي وشبه الطبي واذا علمنا ان هؤلاء من اهم الكفاءات المغادرة لتونس ندرك ربما حجم خطورة هذه الظاهرة.
والحقيقة ان موضوع الهجرة اصبح هاجسا لدى اغلب الفئات من التونسيين ولم يعد الأمر يقتصر على فئة دون أخرى فيكفي ان ننظر الى بعض الدراسات السوسيولوجية والمتغيرات التي تعتمدها لندرك أن جلّ التونسيين اصبحوا يتطلعون إلى الهجرة الى الضفة الشمالية للمتوسط او الى بلدان أمريكا الشمالية وحتى بعض البلدان الآسيوية وفي مقدمتها بلدان الخليج العربي. والهدف هو البحث عن فرص عمل افضل وعن معيش يومي أحسن. فمعلوم ان السنوات التي تلت أحداث 14 جانفي 2011 قد عرفت تدهورا على جميع المستويات, وغياب واضح لكل استراتيجيات التنمية والآفاق الممكنة. وهو ما حدا بالكفاءات النوعية ان تفكر في الهجرة مثل غيرها من باقي الفئات والطبقات.
لكن من الأكيد أن هجرة الأدمغة تترك آثارها السلبية على المجتمع فيخسر نخبته بالتدريج ويفقد البلد ذكاءه وتتراجع الخدمات المقدمة للمواطنين خاصة وان اغلب المهاجرين من الأطباء والمهندسين والباحثين والاكاديميين وهم الصفوة كما نعلم جميعا.
ومن المهم هنا ان يتم تركيز جهود الدولة في إيجاد حلول عميقة وجذرية لهذه الظاهرة عبر إيجاد استراتيجية وطنية يتدخل فيها كل الفاعلين في المجالات المعنية بدءا بوزارة التعليم العالي ومرورا بهياكل قطاعات الطب والهندسة وباقي التخصصات المعنية والاستئناس برؤية الخبراء والمختصين. ثم فتح جسور حوار مع البلدان التي تستقبل سنويا أعدادا كبيرة من الكفاءات التونسية والتفاوض معها بشأن الاسهام في التكوين والتدريب الجامعي عندنا وهذا ما سيجعل من بلادنا قطبا عالميا في مجال التكوين الجامعي في تخصصات الهندسة والطب على سبيل المثال.
ومعلوم ان بعض البلدان اعتمدت هذه الاستراتيجية ويمكن الاستلهام منها ويمكن ان يتم الانطلاق من خلال الحوار مع الشريك الفرنسي باعتبار ان هذا البلد يستقطب العدد الأكبر من الأدمغة التونسية ونظرا لعوامل كثيرة من بينها عراقة العلاقات وعامل اللغة وطبيعة العلاقات التاريخية وبالتالي يمكن ان نتفاوض مع الفرنسيين من اجل المساهمة بشكل مباشر في مجال البحث العلمي في بعض التخصصات على غرار الطب والهندسة.
ولكن يظل توفير إمكانات العيش الكريم وبناء دولة القانون والمؤسسات القائمة على تكافؤ الفرص وإيجاد عدالة اجتماعية ومساواة الجميع أمام القانون وتحريك عجلة التنمية من أوكد الأولويات من أجل ان يستقر التونسيون في بلدهم ولا يفكرون في المغادرة.
اتّساقا مع الرهانات الوطنية والإقليمية والدولية : المضيّ بخطى ثابتة نحو أفق جديد
على الجميع ان يحثّ الخطى في الاتجاه الذي رسمه الشعب لبناء تاريخ جديد … هذه الجملة هي…