2024-10-18

حتى لا تكون ميزانية 2025 وثيقة محاسباتية مكرّرة.. لِمَ لا اعتمادات استثنائية للتعليم والنقل والصحة..؟

لا حديث هذه الأيام سوى عن الميزانية وقانون المالية للعام 2025، وهو أمر طبيعي في مثل هذه الفترة من كل عام واللّافت أن الجدل يحتد قبل المصادقة النهائية على المشروع من قبل نواب الشعب مع حلول تاريخ العاشر من ديسمبر، ويرتفع منسوب التفاؤل بأن نسبة النمو على سبيل المثال قد تكون جيّدة وأن التوازنات العامة للدولة وكذلك المسائل المتعلقة بالاستثمار والتوازن الجهوي والتشغيل وتحسين الواقع المعيش للتونسيين وغيرها مأخوذة بعين الاعتبار.

ولا يغيب عن النقاش العام الحديث عن صعوبة الأوضاع وخصوصا عن تركة منظومات الحكم المتعاقبة وكذلك التحديات الاقليمية والدولية الى جانب تأثيرات المناخ والمشكلات البيئية مع التأكيد على ضرورة تقاسم الأعباء والاقتناع بأن القادم أفضل.

والقادم هو في جميع الحالات أفضل وفق دروس التاريخ رغم صعوبة الجغرافيا كما يقال وهنا نستحضر دائما كيف توفّقت بلادنا في أدق اللحظات وحتى أحلكها في تجاوز الصعوبات.

وكما هو معلوم تُبنى الميزانية أو بالأحرى تأخذ بعين الاعتبار جملة من المتغيرات التي ليست مرتبطة بنا فقط من ذلك سعر برميل النفط في العالم وقيمة عملتنا علاوة على معادلة المصاريف والموارد وهذه النقطة بالذات هي المؤرقة فالموارد الذاتية محدودة والهبات والقروض والاستثمار الخارجي ليست بالأمر الهيّن وتحكمها الأجندات السياسية وتستهدف السيادة واستقلال القرار الوطني.

على أن الأمل والتفاؤل يظل قائما، والحلول التونسية  – التونسية ممكنة، والتفاف الشعب حول القرارات الجريئة و«الثورية» حتى وإن كانت مكلفة مقبولة ومقدور عليها كما يقال.

في سنة 2012 وما تلاها على سبيل المثال، فرض الأمر الواقع والخطر الداهم المتمثل في تغول الارهاب زمن هيمنة الاسلام السياسي على بلادنا، التوافق على ادراج اعتمادات استثنائية في قوانين المالية لصالح وزارتي الدفاع والداخلية تحت عنوان الحرب على الارهاب، ويتذكر الجميع كيف كان نواب المعارضة عن الجبهة الشعبية في البرلمان أنذاك يعارضون قانون المالية ويصوّتون لصالح الزيادة في ميزانية هاتين الوزارتين فقط.

وحصل الأمر نفسه مع جائحة الكوفيد سنتي 2020 و2021، وحظيت وزارة الصحة بالضوء الأخضر لدعم مجهودها في الحرب على الوباء.

اليوم، ونحن نرى كل يوم، في المباشر معاناة التونسيين في حياتهم اليومية، يقتضي الأمر اتخاذ مبادرات ولو «مكلفة» لصالح وزارات وقطاعات بعينها واعتبار أن المصاريف فيها هي استثمار بكل المقاييس لأن أهم رأسمال في تقديرنا هو المواطن.

لقد لامس وزير النقل على سبيل المثال حجم الكارثة في القطاع الذي يشرف عليه وبان بالكاشف أن الحلول الترقيعية الظرفية ماهي الا مسكّنات لا تحل المشكلات، واقتناء الحافلات المستعملة مثلا لم يعد مجديا بل إن حياة المسافرين على متن وسائل النقل العمومي أصبحت مجازفة وصارت الحياة مهددة في عربات مترو وقطار مفتوحة وسفرات تدوم أكثر من عشر ساعات دون أن ننسى طاقة الاستيعاب فبعض وسائل النقل العمومي تحمل أضعاف طاقتها العملية والقانونية وهو ما لم يعد ممكنا التغاضي عنه ويفرض التدخل الناجز في أقرب الآجال..

نفس الأمر بالنسبة الى قطاع الصحة، ففي بلادنا أصبحت للأسف صحة للأغنياء وأخرى للفقراء.. مؤسسات صحية عمومية في مناطق آهلة بالسكان لا توجد فيها ادوات العمل الضرورية كآلات التصوير (السكانار) والتحليل ولا وجود لأطباء الاختصاص وأحيانا كثيرة لا وجود لبعض الأدوية والطوابير تذكّرنا بالطوابير أمام الملاعب الرياضية أو جمهور المهرجانات في الوقت الذي تنتعش فيه المؤسسات الصحية الخاصة وتفرض تسعيرتها وكم من عائلة تونسية أخرجت مريضها جثة هامدة (الأعمار بيد الله بطبيعة الحال) بفاتورة فيها عشرات الملايين..!

أما القطاع الثالث الذي نود إعادة النظر في تمويله فهو من المفارقات أن يكون حوله الاجماع الوطني وأن يتغنى الجميع بكونه «المصعد الاجتماعي» لكننا نصطدم في الواقع بقطاع يستغيث، كيف نبني ناشئة في فضاء مدرسي مترهل وإطار تدريس منقوص ونتحدث في نفس الوقت عن الرقمنة في الوقت الذي تهاجر فيه العائلات التونسية إلى التعليم الخاص حيث الرفاه والجودة وآفاق التشغيل ومواصلة الدراسة بالخارج وهو ليس بالأمر العسير مادام المال قوام الأعمال، ولا ننسى أننا في كل عام نفرّط في عدد من الأدمغة من الحائزين على الباكالوريا الراغبين في الدراسة بالخارج وندرك جيدا أن عودتهم غير مطروحة.

هي ليست مسؤولية السلطة لوحدها ولا وزارة بعينها أو هي ليست أيضا مسؤولية المشرّع في الغرفتين والذي يبدي امتعاضه ونقده لكنه يصوت في النهاية تحت شعار انقاذ ما يمكن انقاذه و«غدوة خير»، نحن بحاجة إلى أن نصارح بعضنا ونتجرأ على التضحية وعلى تقاسم الأعباء بالعدل والقسطاس كما يقال، ونمضي في إقرار اعتمادات استثنائية في هذه القطاعات الحساسة الخدماتية الاستراتيجية للعام 2025 وما بعده لأن الحرب على الجهل والأوبئة ومشكلات النقل وغيرها حرب طويلة الأمد وليس في ذلك مفاضلة مع بقية الحقائب الوزارية والقطاعات اذا كانت المقاربة في صياغة الميزانية وقانون المالية تشاركية على قاعدة أهداف مرحلية لتونس الجديدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!

تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…