أصبح من الواضح ـ اليوم ـ وبعد انتهاء السباق الانتخابي لرئاسية 2024 وبعد فوز قيس سعيد بعهدة ثانية وبنسبة أهّلته لتحصيل شرعية مطلقة ومشروعية مريحة ان الرئيس بصدد التهيؤ لانتاج خطاب سياسي فيه مراجعات وعناوين تهدئة خاصة في مستوى عزمه على الذهاب عميقا نحو مصالحة وطنية حقيقية لتقوية الوحدة الداخلية ولتجميع كل قوى المجتمع المدني من أحزاب ومنظمات وجمعيات من حول هذه الوحدة التي أصبحت ضرورية بل مستعجلة في مثل هذه السياقات الاقليمية والدولية المتوترة والتي أصبحت فيها السيادات الوطنية مهدّدة بكل أشكال الاختراق وهو ما عبّر عنه بوضوح رئيس الحملة الانتخابية لقيس سعيد ليلة الاعلان عن النتائج بتأكيده على أن المرحلة تستدعي «وحدة وطنية صلبة» لبناء تونس الجديدة.. ونعتقد ان الرئيس قيس سعيد بعد ما حصّله من شرعية ومشروعية في رئاسية 2024 ستكون له في عهدته الجديدة عديد التعديلات وخاصة في مستوى علاقته «بالاجسام الوسيطة» والتي سقط أغلبها من تلقاء نفسه بعدما أطلق قيس سعيد مساره السياسي يوم 25 جويلية 2021 وبعدما تم افراغ كل المنظمات والاحزاب الانتهازية من محتواها وبعد ابعادها عن مربعات الحكم التي كانت عالقة به ومؤثرة في قراراته على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل ـ مثلا ـ والذي انتزع منه مسار 25 جويلية هذه «الحظوة» التي جعلت منه «سلطة فوق سلطة حكومات ما بعد الثورة».

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه السياقات المكتظّة بالنوايا الحسنة.. ما الذي نتوقّعه من «دولة الرئيس» في علاقتها بالمنظمات والاحزاب السياسية…؟ هل من الممكن انهاء هذه القطيعة التي حصلت بين الطرفين مباشرة بعد الاطاحة بمنظومة  الاخوان وبكل الاحزاب المجاورة لها يوم 25 جويلية 2021 تاريخ اطلاق المسار السياسي للرئيس قيس سعيد…؟ وهل ما تبقى من الاحزاب في المشهد السياسي يمكن التعويل عليها لتكون أحزابا شريكة في مسار المرحلة التي أطلق عليها الرئيس عنوان :«البناء والتشييد..»؟

أولا لا بدّ من الاشارة ـ هنا ـ الى أن ما أسميناه وحدة الصف الداخلي وتأكيدنا على ضرورة تقوية هذا «الصف الوطني» لا يعني اجراء عملية فرز «تطرد» المختلفين ولا تبقي علىغير المتشابهين في الافكار والرؤى والتصورات بل إن الوحدة الحقيقية إنما تتجلى في القدرة على تجميع مختلف الحساسيات السياسية والفكرية تحت راية واحدة ففي الاختلاف ثراء وبالاختلاف تصنع الافكار الكبرى… أمّا التشابه فلا يصنع غير النمطي.. والمتكرّر سريع التهرؤ… والتشابه كما يقول الراسخون «فكرة دائرية» تأكل من جسدها الى أن تفنى وبالتالي ومن أجل كسر «دائرة المتشابه والمتكرر» فإن تونس في حاجة الى كل أبنائها وفي حاجة الى فضاء عام ثريّ وشاسع بالافكار الجديدة والمختلفة..

هذا في مستوى ما تنشده المرحلة وهي مكتظة ـ كما أشرنا ـ بالنوايا الحسنة لكن الواقع على الأرض غير ذلك ـ تماما ـ ويلزمه ـ بدوره ـ مراجعات كبرى ونتحدث هنا عن المشهد السياسي وما تبقى فيه من أحزاب سياسية ـ موالاة ومعارضة ـ ونحن نشير ـ هنا ـ إلى الاحزاب السياسية التي نشأت بعد الثورة والتي ضَمُرَت ثم تلاشى أغلبها ثم سقطت واختفت ـ تماما ـ ما بعد مسار 25 جويليةولم تتبق منها غير أصوات لا تمثل غير نفسها… والواقع ان هذه الاحزاب التي وضعت نفسها على الطرف الآخر المقابل لمسار 25 جويلية لم تسقط ولم تختفِ بفعل عملية كنس كبرى أجراها الرئيس قيس سعيد بعدما أطلق مساره السياسي وانما هي سقطت واختفت من تلقاء نفسها بسبب هشاشة التأسيس والذي لم يكن على مبادئ وقيم مواطنية صلبة وإنما كانت تمثل فئات مجتمعية سعت الى الحفاظ على مواقعها داخل المجتمع وداخل السلطة ذاتها بل إن هذه الأحزاب ـ ولنأخذ حركة النهضة أنموذجا ـ حين انتقالها بعد الثورة من حزب معارض لمنظومة ما قبل الثورة الى حزب حاكم فإنّها أعادت انتاج تجربة المنظومة التي أسقطها التونسيون من مثل الانفراد بالحكم والقرار وإقصاء كل المختلفين معها مع توزيع الغنائم على العائلة وجيران العائلة زائد «تقوى مفتعلة» باسم الله لخداع التونسيين.. نفس الشيء حصل فترة حكم نداء تونس الذي أعاد بدوره رسكلة السابق وإعادة انتاجه بأشكال وأساليب مبتذلة هتكت عرض الدولة ودمّرت مؤسساتها.

لم تكن الأحزاب السياسية ما بعد الثورة أحزاب حكم ولم تكن مؤهلة لتقدم بدائل مجتمعية في الصحّة والتعليم والنقل… الخ وإنّما كان همّها الوصول الى السلطة خاصة وأنّ الطريق اليها ـ ما بعد الثورة ـ كانت سهلة وممكنة.. لذلك لم تتمكن هذه الأحزاب من الصمود أمام أوّل هبّة ريح مرّت عليها فانسحب من انسحب وغادر من غادر واختار آخرون لعب «دور الوكلاء وانخرطوا في مؤامرات صغيرة لم تصمد بدورها فسقطت بعد كشفها…

نحن ندعم انفتاح الرئيس قيس سعيد في عهدته الجديدة على الأحزاب السياسية حتى تكون شريك حكم نقدي كما ندعم المناخ المعتدل الذي ينوي الرئيس اضفاءه على الحياة السياسية في تونس وندعم نواياه  في سعيه الى تقوية وحدة الصف الداخلي.. ولكن يبقى السؤال هل أنّ الطرف المقابل أحزابا ومنظمات قد أجرى مراجعات داخلية لاصلاح ما تداعى ولاقتلاع ما تعفّن ومافسد داخلها..؟ ما المراجعات التي أجرتها المنظمة الشغيلة مثلا في مستوى المواقف وفي مستوى القيادة خاصّة وفي مستوى تسييرها للاتحاد وكيف ردّت القيادة الحالية للاتحاد على سؤال الشرعية…؟ وقس على ذلك بعض الأحزاب العريقة على اليسار كما على اليمين وبعضها لم يجر منذ دهر مؤتمرا انتخابيا لتشبيب القيادة ولإخلائها من الوجوه التي انتهت صلوحيتها من زمان..؟

هل بإمكان تونس الجديدة أن تتقدم مع وجوه الخيبات القديمة…؟ لا أعتقد ذلك وبالتالي فإنّ الأحزاب والمنظمات المشار اليها مطالبة بإجراء عملية كنس كبرى لتنظيف البيت من الداخل ولنزع ما علق على واجهة هذا البيت من تشوّهات عميقة وما عدا ذلك لا أحد سيقبل بعملية «رسكلة» القديم وتقديمه على أنّه جديد…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

الذكرى 61 لـ«ملحمة الجلاء».. درس فخر وكبرياء..!

تمرّ اليوم 15 أكتوبر 2024 الذكرى 61 لعيد الجلاء وهي ذكرى عزيزة على التونسيين لِمَا تتكتّم …