عندما تتوفر الإرادة السياسية تتغير كل المعادلات: من حرب الجلاء الى معركة السيادة
لأن الوقائع التاريخية تشبه الشعوب التي تنتجها فقد كان تاريخ تونس شبيها بالشخصية القاعدية للتونسيين فعلى مدى الأحقاب التي مرت على هذه الأرض الطيبة ورغم كل المحن والأزمات والثورات كانت الحكمة حاضرة وكان العقل سائدا حتى في أزمنة العواصف.
ولذلك مارس التونسيون طوال تاريخهم لعبة السياسة بكثير من الذكاء والفطنة ولم يكونوا أبدا من فصيلة دونكشوت الذي يحارب طواحين الريح لكن من الإنصاف القول أيضا أننا شعب لم يفرّط في انتمائه وان سمته البارزة هي الشموخ والإباء التي تجلت في أكثر من محطة وعندما اقتضى الأمر خوض حروب ومعارك دامية فدا التونسيون بلدهم بدمائهم الزكية ولعل حرب بنزرت او معركة الجلاء كما اصطلح عليها كانت العنوان الدال على ما أسلفنا قوله.
إذن ونحن نحيي ذكرى الجلاء ومغادرة آخر جندي فرنسي لأرض الوطن نستحضر صور خروج ذيول المستعمر مندحرة في مشهد مذلّ يختزل تلك اللحظة التاريخية المفصلية. ونتوقف عند قدرة التونسيين خاصة عندما تتوفر الإرادة السياسية على قلب كل المعادلات لصالحهم فهم مسالمون ومحاورون على قدر عال من الحنكة ومحاربون شرسون أيضا عندما يخوضون المعارك وقد كانت حرب بنزرت مثالا حيا وقبلها كل المعارك التي دارت بين المقاومين وجيش المستعمر الفرنسي.
لكننا كنا دوما ندرك أهمية التوقيت واهمية المناورة في الفعل السياسي والتكامل بينه وبين المقاومة المسلحة.
نقول هذا ونحن نخوض اليوم وبعد ما يزيد عن الستين عاما من معركة الجلاء معارك من نوع آخر في ظل صراعات وتوترات تتسق مع المرحلة الحالية.
وقد راهنت تونس في السنوات القليلة الأخيرة على السيادة الوطنية وجعلتها شعارا للمرحلة فلا مجال للتهاون بشأنها واعتبارها خطا أحمر لا ينبغي السماح بالاقتراب منه او مجرد التفكير في المساس به قيد أنملة.
ورغم الأزمة الاقتصادية التي تمر بها بلادنا جراء غياب سوء الحوكمة وغياب العقل الاقتصادي الذي وسم مرحلة ما بعد الثورة ونحن اليوم نعيش تبعات ذلك إلا ان تونس رفضت الانصياع لإملاءات المانحين الدوليين وطالبت ان يتم التعامل معها بندية وعلى أساس الاحترام المتبادل. وهو الأسلوب التي تفرضه في التعامل مع الاشقاء والأصدقاء رافضة كل أشكال التدخل السافر في الشؤون الداخلية لها كما تنأى تماما بنفسها عن الخوض في الشأن المحلي لأي بلد.
ولأن المتأمل في ما يحدث حولنا يدرك دون بالغ عناء حجم الاحتقان والتوتر في محيطنا الإقليمي وتنامي الصراعات الدامية والأكيد ان لكل هذا تأثيراته على بلادنا وان تداعيات هذه الأحداث لها مخاطر جمّة علينا بشكل مباشر او غير مباشر غير ان الحصانة الوحيدة لنا من كل هذا هو وحدتنا الوطنية الصماء ووعينا العميق بأن الشعب الذي واجه المستعمر الفرنسي الذي كان وقتها من اكبر القوى العسكرية والسياسية في العالم وأخرجه بقدر من الخسائر أقل بكثير من غيره من الشعوب بفضل الحنكة السياسية قادر اليوم على ان يجابه كل التحديات التي تواجهه وان يخوض معاركه بنفسه في ظل إرادة سياسية تتسق مع ما يريده. وهو بالتالي يرفض كل اشكال الوصاية على مواقفه السياسية والديبلوماسية كما هو الحال في موقفه الثابت من القضية الفلسطينية ودعمه اللامشروط لحق الشعب الفلسطيني في وطن حر وتضامنه المطلق مع الأشقاء العرب في كل المحن التي يمرون بها دون ان يقحم نفسه في أحلاف او اصطفاف لها اجندات سياسية معلومة.
مرفق القضاء حجر الأساس في بناء الدولة ومؤسساتها : ..والعدل أساس العمران..
هل نحتاج الى استحضار مقولة علاّمتنا الكبير عبد الرحمان بن خلدون: «العدل أساس العمران» للت…