تمرّ اليوم 15 أكتوبر 2024 الذكرى 61 لعيد الجلاء وهي ذكرى عزيزة على التونسيين لِمَا تتكتّم عليه من معاني كبرى تؤكد على مدى عظمة هذا الشعب الذي صنع تاريخه وصنع مجده ومجد البلد بعزائم أبنائه وبدمهم الذي صبغ تراب الارض وحوّله الى وطن حرّ مكتمل السيادة بعد طرد آخر جنود الاحتلال الفرنسي الذي أحرق الارض قبل المغادرة بعد معركة الجلاء الملحمية وبعدما ارتكب جرائم كبرى في حق التونسيين في معركة دموية غير متوازنة يؤكد المؤرخون بأنه قد تم إغفال بعض تفاصيلها لفظاعة ما ارتكبه جيش الاحتلال من جرائم.

لقد كانت معركة ملحمية بأتم معنى الكلمة لا تختلف في عناصرها عن الملاحم القديمة التي تناقلتها الاجيال وتحوّلت ـ عبر التاريخ ـ الى دروس فخر وكبرياء تحكي رواية «الشعوب الحرّة» التي صنعت مجدها بعزائم اللاتي والذين صبغوا الارض بلون الدم وصنعوا منه رايات البلد…

لقد كانت معركة الجلاء ـ تاريخيا ـ امتدادا موضوعيا أو هي ردّة فعل نهائية وحاسمة على وحشية جيش الاستعمار الفرنسي والموسوم في تلك المرحلة بالجيش الأكثر إجرامية في مستعمراته فبعد يوم 8 فيفري 1958 تاريخ العدوان الفرنسي على قرية ساقية سيدي يوسف على الحدود التونسية الجزائرية والتي خلفت دمارا وعددا كبيرا من الشهداء التونسيين والجزائريين وبعد استنفاد كل الجهود التفاوضية انطلقت معركة الجلاء الكبرى سنة 61 وكانت معركة غير متوازنة كما يذكر المؤرخون في مستوى العدّة والعتاد سقط خلالها مئات الشهداء وآلاف الجرحى من التونسيين الا أن إصرار أبناء الأرض على استرجاع السيادة كاملة كان أكبر من اصرار الجيش الفرنسي على الاحتفاظ بقاعدة بنزرت البحرية لموقعها الاستراتيجي في المنطقة وبعد مفاوضات طلبها الرئيس بورقيبة من الرئيس الفرنسي شارل ديغول لوقف اطلاق النار ولفسح المجال للجهود الديبلوماسية قررت فرنسا اجلاء ما تبقى من جيشها واخلاء القاعدة البحرية ببنزرت ويوم 15 أكتوبر من سنة 1963 كان الاميرال الفرنسي «فيفياي ميناد» آخر المغادرين لمدينة بنزرت بما أنهى ـ تماما ـ فترة الاستعمار الفرنسي لتونس ولتسترجع البلاد التونسية سيادتها الوطنية على أراضيها وليتحوّل «المستعمر القديم» الذي تحوّل مع امتداد التاريخ ومع تبدلاته الكبرى الى «صديق» والى «شريك استراتيجي» الا أنه لم ينس ـ رغم تبدلات التاريخ والجغرافيا ـ عاداته الاستعمارية القديمة بتدخله في الشؤون الوطنية التونسية وذلك بدروسه ـ غير المجانية ـ في الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان وهي «الدروس» التي أسقطتها بل أتلفتها الحرب الصهيونية على غزّة والتي أبانت خلالها فرنسا وكل الديمقراطيات الاوروبية المجاورة عن وجهها الحقيقي الذي يكيل المواقف بمكيالين… ففي الوقت الذي كانت فيه غزّة بصدد التعرض لأكبر حرب ابادة في تاريخ الانسانية لم يتردد الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» في التأكيد على ان فرنسا تساند الكيان الصهيوني مطلقا في «محنته»…

هذه حال فرنسا الديمقراطية التي لم تتخل ـ كما يبدو ـ عن «نزوعها الاستعماري» وهي تستحضره كلّما ارادت أو حاولت اختراق واستباحة «السيادات الوطنية» لشعوب المنطقة المغاربية وخاصة الجزائر التي وضعت حدّا للتدخل الفرنسي في شؤونها وكذلك تونس التي وضع رئيسها قيس سعيد سدّا منيعا أمام كل من يسعى لاستباحة السيادة الوطنية والتي يعتبرها خطّا أحمر لا يمكن الاقتراب منه أو تجاوزه… وتونس اليوم تخوض معركة السيادة بكل امكانياتها من أجل استقلالية قراراتها الوطنية ومن أجل ان تكون بلدا حرّا غير مرتهن للآخرين سواء كان الآخرون أصدقاء أو أشقاء أو جيران حدود…

لهذا كلّه نقول بأن معركة الجلاء ما تزال مستمّرة وبأن «ملحمة 61» هي الدرس المرجعي الذي يستمد منه التونسيون في هذه المرحلة الدقيقة كل الخلاصات وكل المقدمات التي تجعل من تونس بلدا عظيما بشعبه وبتاريخه وبأمجاده وباستقلالية قراره الوطني وبمحافظته على كل مكاسب الدولة الوطنية وعلى مكاسب الثورة التي غدر بها «وكلاء المستعمر القديم» ممّن يتحركون ـ الى الان ـ من أجل الضغط على تونس ورهنها لدى صندوق النقد الدولي بشروط تستبيح القرار الوطني وتسعى الى التأثير عليه وتوجيهه وكلّنا يعلم اليوم أن تونس تتعرض لضغوط دولية أمريكية وأوروبية حتى تلتحق بركب الدول العربية المطبعة مع الكيان الصهيوني وبالتالي تليين موقفها تجاه دولة الاحتلال وعدم الذهاب في خيار تجريم التطبيع بل إنه من الشروط غير المعلنة التي وضعتها الدول الكبرى وخاصة أمريكا للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي أن تسارع تونس باطلاق مسار التطبيع مع الكيان ما ترفضه بشدّة «دولة الرئيس» قيس سعيد الذي أكد في أكثر من سياق ان تونس قد اختارت طريقها ولن تتراجع عنه أبدا وبأن الموقف الرسمي والشعبي متناغمان من مسألة التطبيع المستحيل…

واحد وستون عاما على «ملحمة الجلاء» خاضت على امتدادها الدولة الوطنية معارك كبرى في الثقافة وفي التربية والتعليم وفي رفع الجهل والأميّة وفي تأصيل وحدة الشعب التونسي واتجهت الدولة الوطنية نحو تحديث كل القطاعات الحيوية وفتحت جسور تثاقف ندي مع دول المتوسط ومع أوروبا وكل العالم المتقدّم ونهلت مبكرّا من حداثات هذا العالم ووضعت في الأثناء ما يمكن ان تكون به الدول «دولا» من مؤسسات وقوانين وتشريعات وذهبت عميقا في تأسيس ما أسماه بورقيبة «الأمّة التونسية» وكان له ما كان كما جاء في رواية التاريخ التونسي وهي رواية ما تزال بعض وقائعها غامضة أو ملتبسة الى حدّ الآن في علاقة «بالحكم الفردي» وبالمرحلة البورقيبة قبل التأسيس وبعد التأسيس وأثناء التأصيل…

لقد مرّت على «المحروسة» على امتداد تاريخها الحديث أزمات مجتمعية واقتصادية وسياسية كبرى ولم تسلم من انتفاضات وثورات كانت للأسف دموية ما صنع منها اليوم «بلدا أمينا وعصيّا» نسميه ـ في الواقع ـ لا في المجاز وطنا كلّما انهار أو خذله ابناؤه الاّ واستعاد عافيته ونهض من تحت رماد الازمات بفضل نفس «الأبناء» وبفضل «العقل المدني» والذي كلّما اجتمع تحت «راية البلد» الاّ وكان نشيد الانتصار عاليا…الانتصار على كل المتربصين بسلامة تونس وأهلها.

وتستمر معركة الجلاء في كل الاتجاهات وعلى كل الواجهات حتى تكون تونس عصيّة على اعدائها وهذا يستدعي وحدة الصفّ الداخلي بكل اختلافاته ولا اختلاف اذا نادى المنادي باسم البلد…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…