فنون تشكيلية | يتواصل معرضه حاليا برواق الهادي التركي: سعد المهزرس .. فنان من البرية
هناك في اقصى الجنوب التونسي ، حيث الصحراء امتداد لافق السماء ، تبدو الحياة و كما في كل الصحارى شبه منعدمة ، حيث المجال لا يوحي الا بوجود غير الكثبان الرملية او ما يحيل الى ما رسخه الانسان من بنيان لا يقل تقشفا عن ما تجود به منابع المياه هناك من اسباب البقاء علي قيد الحياة .. في تلك الجغرافيا حيث تنعدم الخضرة ، تغلب الالوان الترابية و الحركة بطيئة و الصمت شبه مطلق، غير ان الظاهر عادة ما يحجب دوما ثراء و اسرار الباطن ، فالصحراء دروب و حياة و الوان و اسرار و نبض، لا تتكشف الا لمن انصت ملتصقا بخباياها، كما هو الحال في تجربة الفنان سعد المهزرس ، حيث تبين اعماله المعروضة حاليا برواق الهادي التركي ، دروب تلك العلاقة التي ربطته و لا تزال بالصحراء ، ليس فقط بوصفها مكانا بل و ايضا ذاكرة حية و معاشة ، علاقة انصهار و حب و انصات و كلام ، و هي العلاقة التي جعلته يتجاوز في لوحاته تلك الصورة النمطية و السياحية والتي اختصرت الصحراء ، كما في البطاقات البريدية ، في مشاهد الكثبان الرملية و غروب الشمس و اشكال النخيل المتناثرة و البيوت البربرية .
ما قدمه سعد في معرضه و في جملة اعماله برواق الهادي التركي ، ، صحراء تخص الذات في ما تعيشه و تختبره و تختزله في الذاكرة ، بدءا من سن الطفولة وصولا الى سن الحكمة و التأمل. فالصحراء هي ذاته و ذاته هي الصحراء ، كل واحد منهما يحيل الي الاخرويكشف ذاته من خلال الاخر و لو لا ذلك التوحد بينهما لما تجلت تلك الصحراء بتلك الهيئات و الصور في اعماله ، صفوة القول في هذا ان التصاق تجربة هذا الفنان لا يمكن ان تؤدي الى تمثل تصور احادي او انموذجي لتلك الصحراء ، ذلك ان سعد فنان بالمعني المعاصر يستخلص من المكان و من شرط العيش ما يبني هويته كذات .
في كتاباته يورد جيل دولوزملاحظة هامة تلخص الفرق بين ساكن الصحراء وساكن المدينة ، حيث يقول بأن الانسان في الصحراء يميل الي اختصار الافق الشاسع بالنظر في السماء ( الصحراء ارض الانبياء) اما في المدينة فان الانسان يميل الي اختزال البحر في التراب الضيق للجزر و الى النظر في الارض و محايثتها
لم يتوقف سعد عن التحليق في السماء ، فذلك ما ورثه عن اجداده ، ذلك ان السماء حاضنة بوصلة ، غير ان تلك السماء و التي تبدوا انعكاسا لصورة الصحراء ، حيث الامتداد واحد الي حد التلاقي و العناق ، هي ما منحت سعد حريته الباطنية و جعلته يحلق من خلال فنه بكل تلقائية ، فاول ملاحظة تترسخ في ذهننا و نحن نتجول بين اعماله ، تؤكد و بشكل ساطع ، بانه ليس بصانع صور و لا يبحث عن ما يصلح تسويقه ، يرسم تلقائيا و دون بهارات . قد يقف احدهم و يلقي نظرة خاطفة علي لوحاته ، ليقول بعدها ، انها من صنف الفن الخام ، و هذا وفق سلم تاريخ الفن لا يخلو من الصحة ، لكن من باب الدقة علينا القول بأن ما يرسمه سعد لا يمكن ان ينبع الا من روح خام .
من المهم التأكيد على هذا البعد في تجربة هذا الفنان و الذي لم يغادر بيئته الصحراوية و بقي وفيا لها ، بارادته او بدونها ، مثل وردة الرمل التي تنحتها مسارات الطبيعة.
يحمل المعرض عنوان du « guerbisme » au «Galaxysme و هو في صيغته المركبة يمكن ترجمته كالاتي في خليط من الدارجة التونسية و العربية “ من “ القربيزم الى المجرتيزم “ للتفسير فان القريبزم اسم مركب يشير الى “ القربة “ أي كيس الماء التقليدي و المصنوع من جلد الماعز و له قدرة عجيبة علي حفظ السوائل و برودتها في قيض الصحراء ، اما “المجرتيزم “، فهو اسم مركب يشير الي المجرة ، أي جملة ما تتشكل منه الكواكب و الاقمار و نيازك و غبار كوني و ما الى ذلك . الى لفظتي “ القربة “ و المجرة اضاف سعد “ الايزم “ و التي تنتهي بها ، في اللغات اللاتينية اسماء التيارات الاديولوجية . و يبدو عنوان المعرض هنا و كأنه يخفي درجة عالية من التحدي و الاستفزاز اراد من خلالهما الفنان ان يقول لنا ..ما اقدمه لكم في هذا المعرض نابع من عقيدتي و من اديولوجيا تخصني ، نابعة من ايمان يخصني وحدي ، ايمان نبت و ترعرع في جنة لا تعرفونها ، اسمها الصحراء . الصحراء عنوان القسوة و الجدب ، و مع ذلك استل منها سعد السعادة في مفهومها الافلاطوني القائم علي الانسجام و التناغم .
ليست “قربة الماء “ الا اشارة مختصرة لتلك العلاقة الممتدة منذ الطفولة و التي ربطت الرسام ببيئته الصحراوية ، فعلاقة ساكن الصحراء بالماء علاقة حيوية و هي بالنسبة لسعد شريط ذكريات عن تلك الدروب التي كان يقطعها لجلب الماء و تأمين تخزينه . في تصور سعد المهزرس ، ليس ذلك الوعاء الجلدي “ القربة “ ، مجرد خزان يؤمن لساكن الصحراء الماء ، بقدر ما هو اختزال لعلاقة تختزل علاقة الانصهار التي تصل الي درجة انسنة ما يبدو اداة ، و بما يتعارض كليا مع المفهوم ذاته ، أي الانسنة ، في مرجعيته الغربية ، كتكريس لهيمنة الانسان علي الطبيعة و الاشياء . في حين ان “ القربة “ يصيغها الفنان في لوحاته ، ككائن حي و متجانس مع الانسان ، يمتلئ جوفها الجلدي بالماء فيرويها كما يروينا ، للتتحول بذلك الي كتلة هلامية ، لينة و مطاوعة كجسد حي ، لو احتضناه لتماهى في انسيابية مرنة مع احضاننا .
في عدد من لوحاته المعروضة يستعيد الفنان معمار البيوت و القصور البربرية بالوانها الترابية ، و يتماهي مع اشكالها المتعرجة و ذلك ليس من باب المحاكاة و التصوير الواقعي ، بل من باب التأليف الذاتي و الذي يستحضر ذلك المعمار و يتخلص منه في ذات الوقت ، كأن يجعل من الوانه الترابية و اشكال ابوابه متماهية و منصهرة مع شكل و لون ما يبدوا وجها من ذلك المعمار و من تلك البيوت المنحوتة في الصخر ، يستعيد سعد و بكثافة تستدعي الاهتمام ، تلك الخطوط المتعرجة ليجعلها الشكل المرجعي ، في تنوعه و تعدده ، لرسم كل ما يحيطه من هيئات و شخوص و وضعيات ، و هو في ذلك كأنه يحيلنا الي المعني السري لتلك الخطوط ، لكي تتجلي لنا و كأنها ليست مجرد اشكال عضوية كما هو حال اشكال النباتات و الكائنات و الطبيعة ، بل كاشكال اقرب و اكثر التصاقا بوضعنا البشري ، كافراد و جماعات ، و كأن كل هيئة او تشخيص في شكله الظاهري المتعرج يبين من خلال ذلك الشكل قدره و قصة كينونته ، اليست حياتنا علي تلك الصورة من تلك المسارات المنحنية و الاخرى اللولبية او المتعرجة والمتموجة .. خطوط تحاكي في تداخلها و في صورتها بصمة ابهام كل فرد منا و خصوصية مسار رحلته في هذا الوجود.
يكمن البعد الخام و العفوي في اعمال سعد المهزرس ، في تلك المقاربة الذاتية و النابعة من حضوره في بيئته المحلية ، و هو في ذلك يتجاوز تلك الصورة المدرسية و النمطية عن الرسام الخام مقارنة بما يسمى بالفنان الاكاديمي او المفاهيمي ، و هي مقاربة تستخلص جملة من التأملات الفلسفية و الوجودية ، صاغها الفنان باسلوب بصري دون تكلف او ابهار .