في الشأن التربوي : حتى نؤسّس لثقافة اللاّعنف في الوسط المدرسي
تنتشر اليوم ظاهرة العنف في الفضاء العام في تونس . ورغم المحاولات المتكررة للتصدي للظاهرة إلا أنها تبرز من حين إلى آخر في التظاهرات الرياضية خاصة وفي الشارع . ولم يسلم الوسط المدرسي من الظاهرة وتبعاتها بكل أنواعها إلى حد أن وصل بنا المطاف إلى استعمال العنف من أجل إلحاق الضرر بالآخر بوسائل خطيرة كالسلاح الأبيض .
هذا التطور السلبي في آليات استعمال العنف يدعونا اليوم إلى وضع استراتيجية تستبق حدوث العنف في المدرسة ، وتنشر ثقافة اللاعنف فيها وتثمن التعايش السلمي بين المتعلمين. فما هي آليات إرساء هذه الثقافة، وما هي مجالات تدخلها بالوسط المدرسي ؟
تشخيص الواقع
على كل من يعمل على إعداد استراتيجية تؤسس لثقافة اللاعنف في الوسط المدرسي ، أن يشخص أولا واقع ظاهرة العنف في الوسط المدرسي بإنجاز بحوث تحلل الظاهرة: منشؤها وأشكالها وتبعاتها وخلفياتها وما الذي يغذيها. ويعلم أنه بإزالة تلك الأسباب نتمكن من بناء استراتيجية قادرة على مقاومة العنف بفعالية أساسها تربية الناشئة على ثقافة جديدة تنبذ العنف في المدرسة. لأن بقاء الظاهرة على ما هي عليه اليوم واستعمال الأساليب القديمة في التصدي للظاهرة ، يؤثر سلبا على عيش المتعلمين في المدرسة، وعلاقاتهم فيما بينهم، وعلى المناخ المدرسي عموما.
ولأن ممارسة العنف ضرب من ضروب الإيذاء قد يسلطه التلميذ على نفسه مثل المخدرات والمسكرات، أو على غيره كالاعتداء اللفظي والمادي والنفسي أو على مجموعة أشخاص. علينا أن نعرف الأسباب العامة . وتذكر الدراسات النفسية في المجال أن تلك التصرفات العنيفة عادة ما تصدر كردة فعل نتيجة مشاكل نفسية يعيشها المعتدي كالشعور بالوحدة والانعزال وبأنه منبوذ من مجموعة الأتراب أو الإحساس بالخوف وعدم الأمان والشعور بعدم الاطمئنان من أجل اهتزاز ثقته بنفسه أو إحساسه بعدم ثقة الكهول فيه من مدرسين أو إداريين وغيرها من الأسباب… وتصدر السلوكات العنيفة من المعتدي عموما عن وعي أو دون وعي من خلال التفاعلات داخل المؤسسة التربوية أو خارجها من أجل البحث عن السيطرة على المجموعة أو تأكيد المكانة أو كسب الاعتراف من المجموعة والخروج من العزلة…
لماذا ثقافة اللاعنف ؟
يحتفل العالم يوم 2 أكتوبر من كل سنة باليوم العالمي للاعنف بقرار من الأمم المتحدة صدر سنة 2007 ، وذلك لأن هذا التاريخ يوافق يوم عيد ميلاد الزعيم الهندي ماهاتما غاندي ( 1869 – 1948 ) الذي يعتبر الرائد في العالم في فلسفة اللاعنف. وهو الذي يرفض العنف المادي لإحداث تغييرات اجتماعية أو سياسية في العالم من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية . وتطور هذا المفهوم منذ نهاية القرن العشرين ليستخدم في مجالات أخرى ومن بينها الوسط المدرسي. فبعد انتشار العنف فيه دعا عديد التربويين والباحثين في المجال إلى ضرورة العمل على تربية الناشئة على السلوك الحضاري في المدرسة وإرساء ثقافة اللاعنف بينهم باعتبارها قادرة على خلق بيئة مدرسية مشجعة على الدراسة والعمل والاجتهاد وتنمية قيم الاحترام والثقة المتبادلة بين الفاعلين في المدرسة وكلما برزت أزمة ما يتم حلها بالحوار والتفاهم والتفاوض والتوفيق والتواصل الايجابي .
استراتيجية ثقافة اللاعنف
ينبني إرساء ثقافة اللاعنف بين الشباب عموما على صياغة مقاربة ذات أبعاد متعددة تشترك فيها المؤسسات المختلفة التي تهتم بالشباب كل من موقعه. على أن تعمل المؤسسات الشبابية على برمجة الأنشطة التي تنمي الحوار بين الشباب، وتقرب بينهم من حيث الأفكار مهما اختلفت ، وتعمل على تقوية الثقة بالنفس لديهم ومعالجة الخوف والشعور بعدم الاطمئنان . ويساعد في ذلك الأولياء والجمعيات ذات العلاقة من أجل خلق بيئة شبابية طاردة للعنف بكل أشكاله . ويتأكد ذلك بوضع استراتيجية وطنية تطبق في كل المجالات التي ينشط فيها الناشئة .
وتنطلق الاستراتيجية من الأسرة بدعوة الأولياء إلى تحمل المسؤولية في تربية أبنائهم على القيم المجتمعية السليمة، وتدريبهم على ربط علاقات جيدة وسليمة مع الآخر قائمة على الاحترام المتبادل وخاصة أترابهم في المدرسة، وتربيتهم على الأخلاق الحميدة والسلوك القويم وترسيخ قيم المواطنة لديهم وتنشئتهم على احترام قواعد العيش معا .
أما بالنسبة للمدرسة فمن الضروري وضع بند يهم اللاعنف في المدرسة في السياسة التربوية العامة بإصدار نصوص قانونية صارمة تجرم العنف في الوسط المدرسي وكذلك محيط المدارس مهما كان شكله وتدعو إلى تطبيق آليات مقاربة اللاعنف في التعامل مع التلاميذ في المدرسة. من ذلك الكشف المبكر على السلوكات المنتجة للعنف في المدرسة والتعامل معها بصورة استباقية . كما تعمل المدرسة على تحسيس كل الفاعلين في المدرسة بالاستراتيجية وتكوين المدرسين والتلاميذ والإداريين في مجال الآليات والوسائل المساعدة على الوقاية من العنف ونشر ثقافة اللاعنف بين الناشئة .
وبخصوص الناشئة وفي إطار الاستراتيجية من الضروري تشريكهم في برامج تغرس فيهم قيم الاحترام المتبادل وقبول الآخر وقبول الاختلاف والتنوع والتسامح وحل الخلافات بطريقة سلمية من أجل العيش في رفاه داخل المجتمع المدرسي . وكذلك تعليم الناشئة أهمية العلاقات بين الأتراب القائمة على المساواة فيما بينهم، مع تدريبهم على الاصغاء إلى بعضهم البعض . وفي إطار الأنشطة المدرسية من الضروري العناية الخاصة بالتلاميذ الذين يأتون تصرفات عنيفة من خلال دعوتهم لممارسة أنشطة تشجعهم على ترك العنف وتساعدهم على صقل مواهبهم وهواياتهم. ويمكن أن يكون ذلك بالرياضة وخاصة الرياضات التي تبدو عنيفة لكنها في الواقع تستعمل العقل كالملاكمة والمصارعة .. وبالأنشطة التي يجد فيها التلميذ العنيف نفسه ويعبر عنها بطريقته كالرسم مثلا. ويمكن أيضا تحميل التلميذ العنيف مسؤوليات صغيرة في المدرسة تشعره بأنه ذو قيمة ومكانة فيها وتشريكه مثلا في عمليات التوفيق بين المتنازعين، والإصغاء إليهم مع المختصين في المنظومة التربوية. ويكون ذلك بمتابعة من الاطارات النفسية التربوية وكذلك الاجتماعية إذا كان الوضع الاجتماعي للتلميذ العنيف يتطلب تدخلا يساعده على حل مشاكله الاجتماعية والاقتصادية .
ويمكن للاستراتيجية أن تعمل على إثراء البرامج المدرسية بدراسة القضايا المسببة للعنف والتحسيس بخطورتها كالعنصرية واحتقار الآخر بحكم منزلته الاجتماعية أو بسبب الجهويات مثلا والتنمر والتحرش والأنانية المفرطة … كما يمكن للاستراتيجية أن تكوّن المدرسين والفاعلين في المدرسة في كيفية التعامل مع الناشئة الذين يكونون عرضة للعنف وكيفية تأطير التلاميذ الذين يعانون صعوبات تعلّم واعتماد مقاربات بيداغوجية تشجع على الحوار والتفاعل بين المدرّس والتلاميذ وتثمّن الخطأ باعتباره خطوة من خطوات التعلم والنجاح.
إن تطبيق كل تلك الآليات سيساهم في تربية الناشئة على التشبع بثقافة اللاعنف وممارستها كمسؤولية في الفضاء العام في تونس وفي الفضاء المدرسي الخاص وإذا تشبعوا بثقافة اللاعنف فذلك سيساهم في القضاء على العنف في الفضاء العام ويساعد على إنشاء مجتمع تقوم علاقاته على المسؤولية والاحترام المتبادل بين أفراده مهما اختلفت أفكارهم وتوجهاتهم .
(❊)باحث وخبير في الشأن التربوي
في الشأن التربوي : تربية الناشئة على المهارات أحد تحدّيات المدرسة
من بين التحديات الحياتية التي تواجه المجتمع الإنساني اليوم، والتي على المدرسة رفعها في كل…