2024-10-03

العقوبات التأديبية بالمؤسسات التربوية : مراجعتها ودراسة جدواها من الضروريات…

تمثل  العقوبات التأديبية بأنواعها  الموجهة  للتلاميذ من قبل المربي ملفا  من الملفات  الحارقة التي يجب الخوض فيها تحليلا وتفكيكا لما تمثله من أهمية كبرى ولما لها من انعكاسات على التلاميذ خاصة في الظرف الراهن  الذي تعرف فيه المؤسسات التربوية العديد من النقائص وما تسجله من ارتفاع لمنسوب العنف ناهيك عن المخاطر المسجلة في المحيط المدرسي.

معلوم أن  العقاب يكون لردع التلميذ ودفعه للانضباط خاصة وان المؤسسات التربوية  تعرف أزمة أخلاق حقيقية  وغياب الانضباط  في صفوف شقّ كبير من التلاميذ والذي بات بمثابة العدوى أمام عجز المدرسة عن تأطير أبنائها وتعزيز مناعتهم ضدّ الأخطار الوافدة عليهم من الشّارع، وتجاسر المنحرفين عليها .ناهيك  أن العديد من  التّلاميذ يقضّون القسم الأكبر من يومهم، وأحيانا يومهم كلّه، في الشّارع ليكونوا عرضة لكلّ الأخطار أمام انعدام قاعات المراجعة  والتي تمثل بدورها ملفا من الملفات التي ستكون لنا عودة لتناولها  باعتبارها مكسبا فقدته مؤسستنا التربوية.

ومهما يكن من أمر فان النظام التأديبي  اليوم  يحظى بالاهتمام  وتناوله يخضع لعدة اعتبارات أهمها تلك المتعلقة  بالوضع المتحرك لمؤسستنا التربوية  فلا الوضع نفسه كما كان سابقا ولا الأوضاع ذاتها فلاشيء ثابت بل ربما عرفت المؤسسات التربوية الكثير من المتغيرات ولعل ما تعرفه المدرسة اليوم من مظاهر العنف، أمر  يفرض إعادة النظر في مفهوم السلطة والعقوبة التي يبدو انه بات من الضروري مراجعتها ، ودراسة  جدواها، وخاصة في ظلِّ ما تعرفه المؤسَّسة التربوية من انتشار مختلف أنواع السلوكات المحفوفة بالمخاطر وبذلك نعود إلى موضوع العقوبات التأديبية الموجهة للتلاميذ بالفصل، كالإقصاء  من الفصل  في أي وقت … ولعل الإشارة إلى هذه العقوبة بالذات باعتبار ما لاحظناه من  تطبيع متزايد مع هذا الإجراء، حيث أصبح  الآليّة الأولى وأحيانا الوحيدة التي يتمّ اللّجوء إليها لأسباب متعدّدة تتراوح بين التّشويش المتواصل وبين عدم جلب الكّرّاس أو الكتاب المدرسيّ أو عدم القيام بالواجبات المنزليّة أو غيرها من الأسباب ،فالأصل هو أنّ الإقصاء إجراء استثنائيّ يمكن أن يلجأ إليه المدرّس في حالات قصوى حين يصير وجود التّلميذ داخل الفصل عائقا حقيقيّا أمام السّير الطّبيعيّ للدّرس …

في هكذا إجراء   – عقوبة الإقصاء – لا بدّ لنا أوّلا من التّساؤل: أين سيقضي التلميذ ما تبقى من الوقت ؟ من سيتكفل بتمكينه من بطاقة دخول لحصة الدرس الموالية  إذا تعذر على الوالدين الحضور بسبب الشغل أو لعدة أسباب أخرى وهو أمر أكثر من وارد  ؟ هذا يعني أن يوم تعليم قد ضاع من التلميذ زائد يوم في حياة التلميذ يقضيه في الشارع معرض لكل أنواع المخاطر المعلومة لدى الجميع ،يوم في حياة التلميذ قد يغيّر مجرى حياته ويقلب موازينها ؟   لابد أن تكون للنظام التأديبي دلالة، وهل يحتوي القانون التأديبي التونسي على الحماية اللاّزمة للتلميذ؟ فهل تراعي المدرسة التونسيّة وأساسا المدرسة الإعداديّة حاجيات التلاميذ في مرحلة المراهقة؟ خاصة وأن المرحلة الإعدادية تمثل الحلقة الأخيرة من التعليم الأساسي والتي يرتفع في صفوفها عدد المنقطعين عن التعليم ؟ هل تأخذ المدرسة بعين الاعتبار حاجيات هذه الفئة باعتبارها تعيش مرحلة مفصلية وتحتاج إلى التأطير والإشراف والاهتمام؟

الأمر لا يمكن أن يكون متعلّقا بالعقوبات وحدها ، كما لا يمكن أن يكون متعلّقا بدرجة العقوبة بل يتخطاه إلى عواقب العقوبات المسلطة على التلاميذ في ظل غياب قاعات المراجعة كما كان سابقا والتي  غابت في اغلب  المؤسّسات التّربويّة خلال العقود الأخيرة، ونقصد بها خاصّة فضاءات المراجعة والعمل الجماعيّ ونظام نصف الإقامة…

كما ان الإفراط في اللّجوء إلى إقصاء التّلميذ من ساعات الدّرس  له آثاره السّلبيّة على تحصيله  العلمي وعلى شخصيّته وعلاقته بالمؤسّسة التّعليميّة، بالإضافة  إلى ارتفاع نسبة  الاحتمالات أن يعرّضه  مثل هذا الإجراء إلى  جملة من المخاطر التي يعرفها المحيط المدرسي ، خاصة انه بانعدام قاعات المراجعة سيكون  خارج أسوار المؤسسة التربوية إلى حين الحصول على بطاقة الدّخول، وهو أمر متعلق  بمدى قدرة الولي على الحضور وقد يكون صعبا بالنسبة للأغلبية الساحقة للتلاميذ باعتبار خروج الولي للعمل  ما يعني أن حصوله على بطاقة دخول سيكون حتما في اليوم الموالي  .. وبذلك يتحوّل إجراء الإقصاء بساعة إلى إقصاء بيوم، وقد يتحول في بعض الأحيان إلى أيام ، خاصّة إذا ما أخفى التّلميذ الأمر عن عائلته  لعدة أسباب ، أو إذا ما تعذّر حضور الوليّ لسبب أو لآخر، فنكون بذلك قد وضعنا التّلميذ على طريق الانقطاع المدرسيّ، ولعل  بعض حالات الانقطاع عن التعليم   كانت شرارتها الأولى تعرض التلميذ إلى عقوبة الإقصاء من القسم …

يقول في هذا السياق رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ  رضا الزهروني  أن منظومة العقوبات التأديبية عندما نتحدث عن التلاميذ يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن المنظومة التأديبية في الحياة المهنية بالنسبة للكهول وأكثر بعدا لما يخامرنا من تفكير لنعتقد أنفسنا أمام منظومة قضائية. أبناؤنا وبناتنا بالضرورة سيخطئون طيلة مسارهم الدراسي وهذا منطقي ويدخل في طبيعة الحياة المدرسية. ولنعلم جيدا أن التلميذ يتعلم من أخطائه وبالتالي فان الحل ليس فحسب في تسليط عقوبة عليه بل في جره إلى الاقتناع بارتكابه الخطأ وإلى الإدراك بانعكاساته عليه أولا ثم على المحيطين به وفي تعهده بعدم تكرار هذا الخطإ.

من السهل جدا إقصاء تلميذ مدة ساعة أو أكثر من الدرس باستعمال عبارة «اخرج علي» وذلك عندما يرى المدرس أن المتعلم أربك فعليا وبصفة متواصلة السير العادي للدروس ويمكن اعتبار هذا التصرف وجيها من وجهة نظر المدرس وإدارة المدرسة. ولكن في المقابل كان علينا البحث في أسباب هذا السلوك من طرف التلميذ خاصة عندما تتكرر مثل هذه الأخطاء وفي انعكاساته على مستقبله الدراسي عندما نكتفي بمثل هذه العقوبة فحسب.

فمن وجهة نظره يرى الزهروني  أن الإشكال الأساسي يكمن في تدهور أداء المنظومة التربوية عموما مع الأخذ بالاعتبار فقدان الأمل في النجاح الذي يشعر به أكثر من 70 بالمائة من أبنائنا وبناتنا. فمشاعر العجز والغضب والخوف كذلك تدفع بأبنائنا وبناتنا والذين اغلبهم يعيشون فترة المراهقة إلى اعتماد سلوكيات فيها  نسبة غير مقبولة من العنف يتم التعبير عنها بطرق مختلفة إلى حد وصولهم إلى حالات تستوجب عقوبات تأديبية. ربما هناك أيضا تقصير عائلي يتحمل انعكاساته الأولياء لكن إقصاء التلميذ من الدرس لن يكون الحل وسيعمق شعور هذا التلميذ بالفشل والغضب والإقصاء هذا من جهة. ومن جهة ثانية وفي انعدام قاعات المراجعة ستدفع به الإدارة إلى الطريق بما يمثله من مخاطر الانحراف والعنف والتدخين واستهلاك المخدرات.

ويؤكد  محدثنا أن ما يتم تسليطه على التلميذ من عقوبات يدخل تحت طائلة النظام الداخلي للمؤسسة التربوية المعمول به والذي يكون الولي والتلميذ مطلعان عليه. غير ان  التعامل من الناحية التقنية فحسب أو تحميل المسؤولية لهذا أو ذاك من المتدخلين لن يكون الحل وسيزيد الأمور تعقيدا عندما نتجاهل الأسباب الفعلية التي تدفع تلاميذنا إلى اعتماد سلوك أكثر فأكثر عنفا من حيث تواتر عدد الحالات ودرجة خطورتها. والحل الناجع والوحيد  يتمثل في إعادة بناء منظومتنا التربوية لتكون ذات جودة عالية و مصعدا اجتماعيا تتكافأ فيه الفرص لكل أبناء تونس وبناتها أينما وجدوا ومتى وجدوا.. مدرسة جميلة وجذابة تلقى فيها الأنشطة الرياضية والثقافية والترفيهية حيزا هاما من الأمان  الاجتماعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

عن الطلبة وعلاقتهم بوسائل النقل العمومي : سيناريو التأخر عن موعد الدرس يتواصل..!

لعل تعزيز أسطول النقل العمومي بات أمرا ملحا وأكثر من ضروري فالنقص الفادح في الأسطول يعدّ م…