لم يشهد الفضاء العام الى حدّ اليوم ما يدعو للتوقف عنده أو الانتباه اليه… فلا حياة لمن تنادي ـ كما يقولون ـ رغم الحراك السياسي الانتخابي الذي انطلق مع بداية الحملة الرئاسية 2024 والتي كان من المفترض ان يرافقها حراك مجتمعي ونقاش عام من حول الرهان وعروض المترشحين الثلاثة وما تقدموا به ضمن بياناتهم التي صدرت تباعا منذ السبت 24 سبتمبر تاريخ انطلاق الحملة الانتخابية…

ما يزال النقاش العام متواضعا قياسا بحجم الرهان بحيث لم نلحظ في هذه البدايات حماسة لدى الرأي العام الوطني ما عدا بعض التصريحات والتعليقات هنا وهناك و«ثرثرات فايسبوكية» لاترقى الى مستوى النقاش الجدي لعروض المترشحين ويمكن تفسير هذا «البرود» بتزامن الحملة الانتخابية مع العودة المدرسية والجامعية وانشغال العائلات التونسية بالتكاليف الباهظة لهذه العودة التي تحولت الى هاجس حقيقي يؤرق العائلات في مثل هذه الأيام الصعبة إضافة الى أن الحملة الانتخابية قد انطلقت بالتوازي مع عطلة المولد النبوي الشريف وما رافقها أيضا من مصاريف زائد عودة ادارية ثقيلة بحصتين بعد استرخاء صيفي مطوّل… نضيف الى هذا كلّه صعوبة المقدمات الاولى التي سبقت الحملة الانتخابية والتي شهدت تنازعا قانونيا وقضائيا من حول الصلاحيات بين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمحكمة الادارية وما كان لهذا التنازع من تداعيات على المسار الانتخابي الى ان تم ـ في الاخير ـ حسم النزاع بإقرار ثلاثة مترشحين نهائيين…

أمام كل هذه المعطيات وغيرها فإن الفضاء العام بكل ما فيه من أصوات وأجسام وسيطة لم يتحرك ـ بعد ـ وما يزال متردّدا ولم نسمع الى حدّ الآن صوت الفاعلين والمؤثرين التقليديين فيه ولا ندري ـ حقيقة ـ كيف نفسّر هذا «البرود» وعلّه من طبيعة المقدمات ان تكون كذلك أي باردة ومترددة بصدد جسّ نبض المشهد في انتظار الانطلاقة الحقيقية لحملة المترشحين المطالبين ـ كما جرت العادة ـ بمخاطبة المواطنين عبر الاتصال المباشر سواء في الساحات أو في وسائل الاعلام المتاحة ووفق ما وضعته هيئة الانتخابات من ترتيبات اتصالية…

اضافة الى كل ما سبق فإن «للشخصية التونسية» ـ أيضا ـ تأثيرا كبيرا على المناخ الانتخابي بشكل عام سواء في مقدماته الاولى في علاقة بنسق الحملة أو بيوم الاقتراع حيث يكون لهذه «الشخصية» الدور الحاسم في تحديد نسب الاقبال على صناديق الاقتراع وقد وقفنا عند هذه الحقيقة في الانتخابات التشريعية الأخيرة في دورها الثاني حيث كان العزوف كبيرا وفارقا..

لقد بدّلت السنوات العشر ما بعد الثورة من طبيعة الشخصية التونسية وأفسـدت مزاجها وذلك نتيجة الخذلان الكبير الذي عرفه التونسيون ونتيجة الاحبـاط الذي اصابهم ما بعد الثورة… لقد خذلهم الاخوان «باسم الله» وامتدوا في الحكم «لعقد ونيف» ولم يغادروه الا بعد اسقاطهم في تلك الليلة الصيفية المشهودة بتـاريخ 25 جويلية من سنـة 2021 وقد كانت التشـوهات التي تركـها الاخـوان أكبر من «وعود المسار» الذي وقف عند «حجم الخراب» الذي تركته «دولة الاخوان» وقد ضرب كل مفاصل الدولة وكل مؤسساتها وقطاعاتها الحيوية ولم تسلم من ذلك «الشخصية التونسية» التي أصبحت ذات طبيعة حادّة شديدة الانفعال وطاردة لكل أشكال الحوار ولا تثق في «مخاطبها» حتى وان كان «نبيّا» وذلك ـ كما أشرنا ـ نتيجة «الشقاء» الذي عرفته هذه الشخصية على امتداد السنوات ما بعد الثورة والتي شهدت سقوط ما يسمى «بالاحلام الكبرى» مع توسّع دائرة «الخيبات الكبرى»… لذلك ـ كله ـ تبدّلت هذه الشخصية ـ عميقا ـ ولم تعد تثق في أيّ كان ولا يعوّل عليها ـ أصلا ـ للانتماء لأي فكرة مواطنية وهو ما يستدعي عملية بناء كاملة لهذه الشخصية وذلك باعادة ترميم علاقتها بالدولة والمجتمع وبالسياسة وبالتالي تقوية فكرة الانتماء لديها… الانتماء لهذا البلد الذي نسميه وطنا في الواقع وفي المجاز..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…