انطلقت الحملة الانتخابية لرئاسية 2024 ـ كما هو معلوم ـ منذ السبت 14 سبتمبر الجاري وقد أصدر المترشحون الثلاثة بياناتهم الانتخابية وتوجهوا بها الى الشعب كمقدمات تبشير بما لديهم من رؤى وتصورات وبرامج لانقاذ البلد ممّا هو عليه من أزمات معقدّة سياسية واقتصادية واجتماعية ومالية ومن ثمّة بناء تونس التي نريد وكما يشتهيها أهلها… تونس المتسامحة والمتصالحة مع أبنائها القادرة على توفير الحدّ الموضوعي من العيش الكريم لمواطنيها وعلى التقليص من مظاهر الاحتياج والفقر والاميّة ومن وضع حدّ للتفاوت الاجتماعي بين التونسيين وقد أصبح أكثر وضوحا في السنوات الاخيرة ومن انهاء حالة الاحباط والتوتر الاجتماعي والمضيّ عميقا في إصلاح ما تداعى وما خرب على امتداد العشرية الماضية في التربية والتعليم وفي النقل والصحة وفي كل المجالات والقطاعات الحيوية اضافة الى فتح آفاق الاستثمار الوطني والأجنبي وقطع دابر البيروقراطية التي دفعت عددا من المستثمرين الاجانب الى اختيار وجهات عربية مجاورة لتونس أكثر ليونة في مستوى التشريعات والقوانين المنظمة للاستثمار الاجنبي…

البيانات الانتخابية التي توجه بها المترشحون الى الشعب جاءت بوعود متشابهة ـ تقريبا ـ متقاطعة ومتباينة ـ أحيانا ـ وكلها متّفقة على أن تونس في حاجة الى عزائم قوية من أجل اقلاع حقيقي اقتصادي واجتماعي وسياسي يعلي من شأن الحريات والحقوق ويؤمن بالاختلاف والتعدّد…

فارق وحيد ـ تقريبا ـ اختلف فيه بيان المترشح قيس سعيد وهو تأكيده على نفس الشعار الذي أطلقه في رئاسية 2019 أي «الشعب يريد»… وهو ـ هنا ـ وكما جاء في البيان مصّر على الاستمرار في خوض حرب التحرير الوطني التي بدأها ويعتزم مواصلتها باسم الشعب…

في بيانه تحدث زهير المغزاوي عن الحقوق والحريات والتعويل على الكفاءات في ادارة شؤون الدولة مع الانفتاح على مكونات المجتمع المدني والسياسي زائد وعوده باصلاحات قطاعية ولم تكن وعود العياشي زمال لتختلف عما جاء في بيان المغزاوي وقد وعد «بتغيير نحو الأفضل وطي صفحة الفقر والأزمة الاقتصادية…» الخ…

هكذا جاءت المقدمات الانتخابية متشابهة تقريبا ومتفاوتة في بعض النقاط لأسباب موضوعية… فقيس سعيد يتحدث من داخل السلطة وهو يمارسها وما يزال منذ خمس سنوات بما يعني أنه يدرك مواقع المرض والهوان الذي أصاب البلد ويتعاطى معها يوميا وبين يديه تشخيص دقيق لذلك في حين يتحدث منافساه المغزاوي والزمال من خارج السلطة وبالتالي فإنه من الطبيعي ان تكون البيانات الثلاثة مختلفة في المحتوى وفي الهواجس فقيس سعيد يعد بالاستمرار في ما بدأه من معارك تحت عنوان «حرب التحرير الوطني» وهو يخوض هذه الحرب باسم الشعب بما أنه يتحدث من داخل السلطة كما أشرنا في حين يتحدث منافساه من خارج هذه السلطة وبالتالي فانه من الطبيعي أن يكون لهما بيانان بمحتوى «نقدي» متشابه وبعناوين عامة يتفق من حولها كل التونسيين كالقول :«طيّ صفحة الفقر والمشاحنات والكره والتشفي»… أو القول :«التعويل على الكفاءات وإعطاء أهمية كبرى للحقوق والحريات»… أو الوعد باصلاح قطاعات النقل والتربية والصحة…الخ!

هذه وكما هو بيّن عناوين انتخابية عامة وفضفاضة تصلح لكل زمان ولكل انتخابات وهي ـ في الأخير ـ مجرّد مقدمات ورقية أو صوتية ما لم تجب عن ذاك السؤال المفتاح… والذي يبدأ بكيف…؟

كيف سنطوي صفحة الفقر وبأي امكانيات…؟ كيف سنرمّم الخراب الذي ضرب قطاع التربية والتعليم وبأي امكانيات…؟ كيف سنعيد الطمأنينة للمستثمر الاجنبي حتى يثق في بيروقراطية الادارة التونسية…؟ كيف سنصلح قطاعا حيويا كقطاع النقل الذي تهرّأ وتلزمه «ثورة تجديد كاملة» تنهي «زمن الخردة» وبأي امكانيات سنحقق ذلك…؟ كيف ستقاوم تونس مرحلة الشحّ المائي وبأي تصورات وبأي امكانيات…؟ كيف ستتصالح تونس مع ابنائها الهاربين من أراضيها…؟ وبأي امكانيات سيتم التقليص من بطالة الابناء وكيف ستتم اعادة الاعتبار للمعطلين من أصحاب الشهائد العليا… وكيف سنعيد الأمل للكفاءت التي غادرت حتى تعود…؟

كيف سيتم اصلاح الاعلام بأي تصورات وبأي امكانيات…؟ كيف سنعيد للمواطن مواطنته حتى يسترجع قيم الانتماء لهذا البلد… كيف…؟ وكيف…؟ وكيف…؟

على المترشح الموضوعي وخاصة الذي لم يمارس السلطة ـ بعد ـ في مثل هذه السياقات الوطنية غير المعزولة عن جوارها الاقليمي والدولي ان يبدأ بيانه «بالسؤال المفتاح» «كيف…؟» ان يسأل ثم يجيب بالحجّة والارقام… أما الوعود المنفلتة من عقال اللغة الواردة انشائيا على العواهن فإن «المزاج الفاسد» للتونسيين لم يعد يصدقها…

*     *     *     *

شخصيا كنت أتمنى أن يبدأ بيان أحد المترشحين هكذا :«لست ساحرا ولا نبيّا… ولا عصى لديّ حتى ألقيها فينشق لي البحر.. ولامعجزات بين يدي حتى أقول للشيء كن فيكون… وإنما انا بشر خطّاء لا وعود لدي فقط «أحلام كبرى» من أجل بلد لم يعد يحلم»..!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

تشوّهات على واجهة المنظّمة الشّغيلة..!

 لا أحد كان يتوقع ان يصل الاتحاد العام التونسي للشغل الى هذه الحال من التردي والانقسام وال…