على هامش العودة المدرسية : هل فكّرنا في اصلاح فضاءات ما قبل التمدرس الرسمي؟
عاد التلاميذ الى مقاعد الدراسة وعادت الروح الى المؤسسات التربوية واستعادت صخبها الجميل ورجعت الألوان الى الشوارع تلك هي ملامح العودة المدرسية في جوانبها المشرقة الاحتفالية. اما ما يتصل بالجوانب البيداغوجية والتربوية والتعليمية فإن الامر يطول شرحه لاسيما وقد دأبنا في كل عودة على طرح الإشكاليات المتصلة بالإصلاح التربوي وبالنقائص التي تعاني منها المنظومة التربوية منذ ما يزيد عن عقد من الزمن.
وبما أن المجلس الأعلى للتربية الذي سيرى النور قريبا سيكون فضاء للحوار بشأن كل هذه القضايا وإيجاد الحلول الملائمة لها فإننا ارتأينا ان نطرح إشكالية من قبيل المسكوت عنه أو في افضل الأحوال من المواضيع غير المطروقة على الإطلاق وهي مرحلة ما قبل الابتدائي أو التحضيري والتمهيدي وهي في تقديرنا من اخطر المراحل في حياة الطفل ككل نفسيا واجتماعيا وعلى مستوى التعلم والفهم واكتساب المهارات الأولى.
هذه المرحلة المنسية من عمر أطفال تونس يتم التعامل معها بمنتهى عدم الاكتراث والتساهل مع أصحاب المحاضن ورياض الأطفال الذين يقدمون «أطباقا» على حسب ذائقتهم وتكوينهم وبعضهم لا صلة له بالتربية والتعليم. وقد تناسلت هذه المؤسسات في الآونة الأخيرة بشكل كبير تماما كما ارتفعت كلفتها بالنسبة الى أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة أيضا. اما بالنسبة للمضامين التي تقدم والبرامج فحدّث ولا حرج.
وهنا يمكن ان نقسّم هذه الفضاءات الى مجموعة من الأقسام الأولى عشوائية ولا رقيب عليها ولا حسيب ولا تتوفر على ادنى المقومات لا على مستوى النظافة ولا السلامة ولا الاهتمام بالإضافة الى غياب أي بيداغوجيا متبعة. وجلها يقع في الاحياء الشعبية حيث تضطر الاسر الفقيرة الى وضع أبنائها في هذه الأماكن نظرا لأن كلفتها في المتناول.
أما النمط الثاني فهو الفضاءات التي تقدم نفسها بكونها «راقية» وتقع في احياء من هذه النوعية وتكلفتها باهظة جدا وتقدم مضامين لا صلة لها بالواقع التونسي ابدا بل حتى النشيد الرسمي لا يتم تعليمه للأطفال فيها كما ان الاحتفالات الوطنية والدينية غائبة تماما وتعوّضها مناسبات أخرى من قبيل «الهالوين» وغيرها وهي نموذج «تغريبي» لا صلة له بالثقافة التونسية المتعددة المنفتحة وهي بالتالي تخلق أطفالا منبتّين.
بالإضافة الى نمط ثالث وهو الفضاءات التي طرحت اشكالياتها من قبل ونعني ذات الطابع الديني والتي تقوم على مغالاة كبيرة حيث لا تفسح المجال للأطفال للإستمتاع بالأنشطة الفنية والرياضية وتعلّمهم بعض السلوك والأفكار التي لا تخلو من التطرف. والحقيقة ان هذا النمط تناقص بشكل كبير في السنوات الأخيرة وتمت محاربته بالقانون لكن ما تزال هناك بعض الجيوب الموجودة في بعض الاحياء سواء الشعبية أو الراقية.
وإذا نظرنا الى هذه النماذج للفضاءات التي تحتضن الأطفال في أولى سنوات أعمارهم وفي مرحلة دقيقة من حياتهم يمكن القول إننا نخلق تمايزا بين هؤلاء الصغار ونقضي آليا على فكرة الانصهار التي طبعت المجتمع التونسي منذ أحقاب. بل إن ميزة المدرسة التونسية وما يحسب لها هو دعم هذه الرابطة وخلق مواطن له سمات مشتركة تشكل الشخصية القاعدية للتونسي.
وعلى العكس تماما تبدو الأنماط التي ذكرناها مقوّضة لهذا التمازج بل هي لبنة من لبنات الانشطار في المجتمع وتخلق أكثر من شخصية تونسية متضاربة حد التنافر كما تقضي على كل المقولات المتصلة بالانتماء وبفكرة الوطن. هذا بالإضافة الى الصعوبات التي يجدها الطفل في مستوى التأقلم ومدى استيعاب الواقع المجتمعي الذي يعيش فيه عندما يكبر.
ولهذه الاعتبارات من المهم ان تفكر وزارة التربية بالتعاون مع وزارة المرأة والطفولة وكبار السن في إصلاحات عميقة لهذا القطاع وان تصغي الى اهل المهنة والخبراء والباحثين في المجالات التربوية والنفسية والسوسيولوجية والبيداغوجية من اجل توحيد المضامين المقدمة في هذه الفضاءات وحمايتها من الدخلاء الذين انتصبوا فيها على غرار الكثير من القطاعات الأخرى. ولا ننسى ان هؤلاء الصغار هم مستقبل تونس الذي ينحت الآن ولكن بأي أيدي يتم هذا النحت؟
اتّساقا مع الرهانات الوطنية والإقليمية والدولية : المضيّ بخطى ثابتة نحو أفق جديد
على الجميع ان يحثّ الخطى في الاتجاه الذي رسمه الشعب لبناء تاريخ جديد … هذه الجملة هي…