لا أحد كان يتوقع ان يصل الاتحاد العام التونسي للشغل الى هذه الحال من التردي والانقسام والى هذه العشوائية في اتخاذ القرارات الكبرى.. ولا أحد أيضا كان يتمنى ان يرى منظمة حشاد العتيدة عاجزة عن إجراء حوار داخلي لتصفية «الدم الفاسد» الذي تسرّب إلى جسد المنظمة وهي اليوم على حال كبرى من التشظي والانقسام.

لا نقول هذا الكلام من باب التشفي أو الحقد على هذه المنظمة العريقة… فهي في الأخير المنظمة التي كانت تجمعنا ـ كلّنا ـ نحن كتونسيين من مختلف المشارب الشغلية والمهنية فكرًا وساعدًا… وإنما من باب الحسرة على هذا السقوط الذي أضعف وجودها ككيان صلب وكصرح شاهق كان ملاذا بل حصنا حصينا واجه كل اعداء البلد ممّن امتدّت أياديهم ما بعد الثورة لإرباك التونسيين ولتحويل ثورتهم من ثورة مدنية الى ثورة دينية وقد لعب «العقل المدني» حينها وعلى رأسه الاتحاد العام التونسي للشغل دورا رياديا ورافق الانتقال السياسي ما بعد الثورة وكان صعبا ـ في الواقع ـ وقاسيا وقد شهد انفلاتا دمويا كبيرا وصل حدّ الاغتيالات السياسية…

لقد صنع الاتحاد مجده ومجد ابنائه ومناضليه منذ تأسيسه ضمن مسارات صعبة ولم يكن على امتداد تاريخه خصما للدولة الوطنية بل مرافقانقديا لها وشريكا مدنيا حقيقيا وما حصل من صدامات تاريخية وخاصة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي لم يكن ليعطل مسارات النضال بل استمرت المنظمة وامتدت في تاريخ وجغرافيا البلد كملاذ لأهله من رجالات الفكر والساعد وككيان تمارس داخل هياكله قيم الديمقراطية الحقّة بما في ذلك التداول الانتخابي على مكتبه التنفيذي وكل هياكله المجاورة لذلك كله كانت «نوبل للسلام» جائزة كونية استحقها الاتحاد العام التونسي للشغل والذي يعتبر من المنظمات المرجعية التي لم يتأسس مثيل لها في كل المنطقة العربية والافريقية وكانت تستمد قوّتها من وحدة الهياكل والابناء دون القطع مع «الآباء» فكرا وممارسة…

ما تشهده منظمة حشاد منذ سنوات من ضعف وتردٍّ وفشل في ادارة شؤون منظوريها وما تشهده ـ أيضا ـ من انقسام في المواقف ومن انشقاق واستقالات تحوّلت بعد ذلك الى معارضات نقابية إنما له أسبابه العميقة وقد انفجرت ـ بالفعل ـ في أشغال المجلس الوطني الذي انعقد مؤخرا بالمنستير وزاد في تعميق الانقسام وخذلت أشغاله كل الذين عوّلوا على المجلس الوطني لاطلاق مرحلة جديدة من أجل أن تسترجع المنظمة مكانتها ومصداقيتها التي ضيّعتها بسبب ممارسات عشوائية انتهازية أحدثت تشوّهات عميقة على جسد الاتحاد ويبدو أنه لن يبرأ منها الآن على الأقل خاصة بعد توسّع دائرة المعارضة النقابية وبعد انقسام المركزية النقابية الى أجنحة متعارضة لم يتبق لها غير الدفاع عن مصالحها وامتيازاتها.

أولى الاسباب التي أوصلت الاتحاد العام التونسي للشغل الى هذه الحال من الضعف واللامصداقية أمام الرأي العام الوطني ما حدث في مؤتمر صفاقس أو كما تسميه المعارضة النقابية المؤتمر الانقلابي لسنة 2020 حيث تم الانقلاب على الفصل 20 من القانون الأساسي بما سمح بالتمديد للمكتب الحالي الذي يرأسه نورالدين الطبوبي وفي ذلك «قتل» لكل ما كان يعتبر نفسا أو نزوعا ديمقراطيا داخل المنظمة مع العلم أن «الفصل 20» المشهود قد تم اقراره تاريخيا ضمن القانون الأساسي بعد نضالات قاسية وصعبة وذلك في مؤتمر جربة سنة 2002 وقد جاء في سياق صعب مارست فيه السلطة وقتها كل أشكال الضغط على الحريات وعلى كل ممارسة ديمقراطية تجاه الفصل 20 وجاء كشكل من أشكال التصدي والتحرر من هذه الضغوطات وليتم اقراره رغم «الدفع» لرفضه من طرف «أيادي السلطة» داخل المنظمة الا أنه وفي حركة ارتدادية يتم ضرب هذا الفصل في مقتل بالانقلاب عليه وذلك بتنقيحه وبما سمح للمكتب التنفيذي الحالي بالاستمرار بعد التمديد وهذه ـ في الواقع ـ من أهم الاسباب التي حوّلت الاتحاد من مدرسة للديمقراطية الى مدرسة بيروقراطية انقلبت على نفسها وخسرت مصداقيتها وهو ما عبر عنه نورالدين الطبوبي بنفسه خلال اشغال المجلس الوطني بقوله بأنه قد نَدِمَ على الانقلاب على الفصل 20 من القانون الداخلي ولم يتردّد في الاعلان عن استعداده للتخلي عن الامانة العامة بإجراء تحوير في المسؤوليات الا أن أعضاء المكتب التنفيذي رفضوا المقترح «لاسباب شخصية»…!

وعليه فإنه ولهذه الأسباب الداخلية تراجع أداء الاتحاد وفشل في أداء أدواره التقليدية كما فشل في ادارة الشأن النقابي عموما وهي أسباب ناتجة عن خلافات حادّة قسّمت المنظمة الى موالاة ومعارضة بعد انقلاب المكتب الحالي على الفصل 20 من القانون الاساسي وهو «انقلاب» أفقد  الاتحاد مصداقيته أمام منظوريه وأمام الرأي العام الوطني بحيث لم يعد بإمكانه ـ موضوعيا ـ خوض النقاشات كلما كان الحديث من حول «السياسات والممارسات الديمقراطية» في الدولة وفي المجتمع فكيف لمنظمة انقلبت على عنوان من عناوين الممارسة الديمقراطية والذي يعتبر مكسبا من مكاسب «العقل المدني» أن تخوض حوارا أو ان يصدر عنها نقد للممارسات أو السياسات التي تعتبرها غير  ديمقراطية..؟

وحتى نختم نشير إلى أن هذا الاضراب العام الذي أعلن عنه الاتحاد في ختام المجلس الوطني ولم يحدد تاريخه إنما هو ترجمة لحالة التردي التي وصلت اليها المنظمة وهو شكل من أشكال المناورة العشوائية لجسّ نبض السلطة أولا وللتغطية على حالة الفشل التي يشهدها الاتحاد في مستوى الاداء وفي مستوى تعاطيه مع الشأن النقابي وشؤون منظوريه… ويبدو ان المركزية النقابية لم تتّعض من دروس الماضي ونسيت فشل«الاضراب العام» بتاريخ 6 جوان 2022 حيث كان قرار الاضراب عشوائيا ودون الرجوع الى الهياكل ونحن اليوم أمام نفس السيناريو تقريبا بل نحن أمام السيناريو الأسوإ في مرحلة لم يعد فيها أحد يُنصت لقرارات المركزية النقابية ولمكتبها التنفيذي بعدما ضاعت مصداقيته وبعد ما تسرّب «الدم الفاسد» إلى جسده..

نحن ـ هنا ـ أمام محاولات لتصدير «أزمة داخلية حادة» من خلال «الايهام بالتصعيد» وذلك من أجل «تعويم الازمة» والتخفيف من حمولتها… وهي أزمة هيكلية عميقة في علاقة بالأداء والتسيير وبالبيروقراطية الجاثمة على كاهل المنظمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…