2024-09-05

فنون تشكيلية : حول تجربة الفنان محمد الرقيق

الفن هذه الرؤى و التلوينات الفكرية و النفسية و الجمالية  التي تقول بالذات منطلقا و مقاما وفق نظر تجاهها و الآخرين حيث القلق المعنون بالبحث مجال سفر و نشيد و تجوال بين العناصر و الأشياء في كثير من الدهشة و الأمل و الحنين..

انها لغة العلاقة بين الذات الفنانة و ما قابلها قريبا و بعيدا في خطابها المعنون بالمعنى و تجلياته الشتى تقصدا للكيان في شؤونه و شجونه و حالاته المختلفة ..لغة تبتكر أسماءها و ألوانها و هيآتها الملائمة نحتا للقيمة و لعظمة السؤال.. سؤال الانسان و هو يجترح ملامح كينونته و حلمه من جوهر التفاصيل في عالم متحرك و مربك و متعدد الأبعاد و الامتدادات يسع الانسان و كائنات شتى يمنح الجميع شيئا من ألق المعاني و ألمها ..

و هنا تبدع الذات الفنانة و هي تبتكر عناصر لعوالمها و وجدانياتها و تجلياتها معلنة ضروب العبارة و القول الفني في المتاح و غيره من عوالم الفن و ممكناته الجمالية و الرمزية ..هي ذات قلقة في دأبها هذا نحو نظر مختلف للأشياء محلوم به تجاوزا و ابتكارا و تناغما مع روح جديدة متجددة بالشواسع و الأعماق لأجل حالات أبعد و أصعب و أبرز في جادة الفن الوعرة..

و ماذا لوكان الفنان في دربه التشكيلي مغامرا في تخيره للأصعب في التعاطي الفني بعيدا عن الدارج و المألوف ضمن رؤيته القائلة بالطفولة الساكنة فيه اذ يستبطن في ممارسته الفنية و معالجته لأشياء ذاكرته الحية و ذاهبا في استدراج الفن الى أصداء طفولته ناظرا للراهن حيث الفن و الابداع التشكيلي في هذا التجلي من الانصات للحاضر و القادم في سياقات متعددة من الفن و لاسيما الفن المعاصر..

نظرة للفن تطوع المفاهيم الجمالية الى الافصاح عن شراسة الصلة بين الفنان كحامل لقيم انسانية جمالية وجدانية و حالة سلطوية متصلة بالصرامة و الزجر  و هنا تكمن القيمة الثقافية في النظر للأشياء في هذا المعيش..الفن هنا سعي نحو شفافية العبارة تجاه الحالة و كما هي ..شحنة من التشكيل تجاه شحنة من خطاب صارم ما جعل الفنان يشتغل بعنف ناعم في جمالية تجاه كل ذلك..

و هكذا ندخل عوالم الفنان و الباحث الدكتور محمد الرقيق الذي قدم أعماله الفنية في عديد المعارض بتونس و خارجها و  أ صدر مؤلفه في هذه المجالات من اشتغالاته الجمالية  و هو حائز على الماجستير و الدكتوراه من السربون بجامعة باريس بفرنسا فضلا عن الجانب العلمي الأكاديمي المشتغل ضمنه بالجامعة التونسية و عضويته لسنوات بهيئة المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس من مدينة كما أنه أصدر كتابه بعنوان “السيق الفنية المعاصرة و الثقافة الربحية “نماذج من الفن المعاصر.

ذات معرض له و قبل أكثر من سنة بفضاءات متحف قصر خير الدين بمدينة تونس العتيقة و هو معرض خاص برزت الفكرة التي اشتغل عليها كفنان و ناقد بعين انسان أرهقته الأشياء الصادمة و الصارمة في التواصل متخيرا استعاراته الفنية من مجالات البريد و الزجر و المنع بخصوص الطرود و المراسلات المرفوضة و المغلفة بالمنع و ما الى ذلك في لعبة تشكيلية تحضر ضمنها تقنيات متعددة..

محمد الرقيق فنان اختار الاختلاف نظرا و مفهوما و ابتكارا للقول بالفن  و ممكناته الأخرى و منها الصارمة تجاه اليومي و مضامينه و خطاباته المثيرة و الصعبة و الحديدية أصلا..انها مغامرة فنان خبر مجالات الفن الشاسعة و ممكنات البحث فيها عن المختلف و الجديد و الذي قد يتراءى و يبدو للآخرين مشغلا غير فني..هنا تكمن حدة وعي الفنان في كيفية صياغة ممكنات و مناطق فنه و أسئلتها في كثير من تطويع فني بجماليات معبرة و قوية في مجسماتها..

في هذا الجانب هناك آراء تونسية و عربية بخصوص هذه التجربة للفنان محمد الرقيق و على سبيل الذكر

يقول الفنان و الدكتور خليل قويعة “…يعتمد الفنّان محمّد الرّقيق  في أعماله الأخيرة على استعارة البريد (métaphore de la Poste) وما توقده في النّاظر من سيميولوجيا التّراسل والطّرود والعُبور والممنوع والمحظور والختم والتّأشير واللاّتأشير… كما يعتمد الفنّان على إيقاظ قدرة العلامات، المطبوعة على الطّرود البريديّة، على التّبليغ، ومن ثمّة، التّعامل معها كنصّ مرافق للأيقونات البصريّة..وعلى هذا النّحو، تكون منظومة العلامات مزدوجة، فهي مرئيّة (visible) وهي مقروءة (lisible) مثل القوام الغرافيكي للملصقات. إذ هناك تعاضد سيميولوجي بين العلامة المكتوبة والعلامة المرئيّة التي يقدّمها الفنان من خلال تقنيات مختلفة: فهي مُلصَقة وهي منحوتة أو مرسومة، فيما تتكوّن الرّسالة من تعاون متبادل بين الصّورة والكلمة. وها نحن، أمام العمل، نرى ونقرأ.

فما نراه ليس أكثر من طرد بريديّ مشفوع ببعض العلامات الجاهزة أو المبتكرة، المضافة إليه. ويحتاج الأمر إلى ربطه بما نقرأ، داخل وضعيّة إدراكيّة محدّدة ومعلَنة وهي المعرض، حتى يكون هذا “الطّرد” عملا فنيّا. وأمّا ما نقرأ، فهو خطاب الممنوع والآمر المطلق الذي يمثّل تقنية السُّلطة في بسط سلطانها على المبادلات الدّوليّة بين البشر وحظر بعض الإرساليّات والسّيطرة على الحدود وتأمين نفاذ القرارات القمرقيّة والمصالح الرّسميّة الأخرى وربّما حرس الحدود وغيره، وذلك عين ما نقرأه أو ما نتمثّله، من نوع: “لا تتخطّى الـــ” و  “ TOP SECRET” و  “محجوز رقم 1” و  “محجوز رقم 2” و “ممنوع من التّداول” و  “مطلوب دفع الرّسوم” و “لا يُفتَح إلاّ بإذن رسمي”…

هكذا، يقوم العمل على التّكثيف الإيحائي من خلال توظيف الاستعارة، الرّمز، توجيه نظام الأيقنة، المفارقة، الصّدمة، التّعارض الدّلالي لعلامات متجانسة… وأحيانا، ربط دلالة البريد بتاريخ الفن (Postmoderne) في شكل لعب على الكلمات. وذلك باتّجاه تحميل العمل رسائل، لا تعتمد على مضمون “جمالي- وجداني” (وإن كانت هذه التّجربة تؤسّس لجماليّة خاصّة على مستوى طرائق التشكيل والعرض الفني)، بقدر ما تعتمد على قدرة العلامة على الفضح والسّخرية والتّحسيس والتّلميح والتّضخيم وهتك الحُجُب والإثارة وإلفات النّظر إلى خطاب الممنوع والحظر والحجز ولغة الحواجز القمرقيّة…”.

من جانب آخر، إنّ الفنّ يثير العجب ويستحثّ السّؤال ويستنهض الهمم باتّجاه تعاط آخر مع ظواهر اليومي، من داخل أفق نقدي يتّجه إلى وضع السّلوك السّلطوي والاستهلاكي محلّ نظر، هذا السّلوك الذي أدّى إلى تَشيُّءِ الإنسان. وكانت مدرسة فرونكفورت النقديّة قد موّلت الفكر الجمالي والنّظر الفنّي بإشكاليّات حارقة ساهمت في تنشيط التفكير وخلق جدل في هذا الاتّجاه التّحرّري، عسى أن يكون الفنّ “تعديلا” للعالم و”إعادة تأسيس للواقع” وإعادة رسم لخارطة التّواصل الإنساني الحرّ. والنّظر مستمرّ…”.

محمد الرقيق يأخذنا ضمن تجربته و فنه الى قول جمالي آخر في عالم معولم تنطق أصواته في أغلبها بالمنع و الزجر و الصرامة حيث الكائن المحتاج أيضا الى ما هو متخفف من الشدة و الحسم و القوة و الصرامة لأجل قيم التوازن و النعومة و الهشاشة زمن الحديد اللغوي  و العلائقي بين الأفراد و السلط و الدول و الشعوب ما أنتج عالما بلا قلب…علاقات و قوانين و موانع…بلا روح..انه الفن يكشف و يعري ..و يبدي صراخه القوي..و المضاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في الدورة الثانیة لملتقى عبدالرزاق حمّودة الدولي للفنون التشكيلية «واحـــــــــــــــــــــة فن وبــــــحر»

تشهد مدينة قابس للفترة من 26 أكتوبر الى غاية يوم 03نوفمبر  2024 فعاليات الدورة الثانية لمل…