تشهد البلاد التونسية خلال هذه الأيام حراكا سياسيا ومجتمعيا غير مألوف فرضه السياق الانتخابي نحو الرئاسية والذي فتح نقاشا غير مألوف ـ أيضا ـ بين فقهاء القانون من حول ما يحدث من تنازع للسلطات بين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمحكمة الادارية.

نحن اليوم أمام تنازع قانوني وقضائي لم يسبق ان حدث على امتداد مرحلة الانتقال الديمقراطي التي شهدتها تونس منذ سنة 2011 بحيث تعتبر المحكمة الادارية قراراتها نافذة وغير قابلة للطعن أو النقض او التعقيب في حين ترى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أنها الطرف الوحيد المسؤول عن تسيير الانتخابات وفق ما منحه لها القانون والدستور من صلاحيات ولها بذلك الولاية العامة على هذه الانتخابات وهي الجهة الوحيدة التي ائتمنها الدستور على سلامة المسار الانتخابي ونزاهته، وقراراتها ـ أيضا ـ غير قابلة للطعن أو النقض وهو ما أكده فاروق بوعسكر رئيس الهيئة في الندوة الصحفية أول أمس بقوله ان القائمة النهائية التي ضمّت ثلاثة مترشحين نهائيين وهم قيس سعيد وزهير المغزاوي والعياشي زمّال غير قابلة للطّعن وتمّ نشرها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.

وقد أثار هذا التصريح جدلا واسعا لدى «فقهاء القانون» وردت عليه المحكمة الادارية عن طريق الناطق الرسمي باسمها بقوله :«إن قرار الهيئة بنشر القائمة النهائية للمترشحين دون احترام قرارات المحكمة الادارية وتأكيدها على أنهاصاحبة الولاية العامة وتنصيصها على ان قرارها غير قابل للطعن وضعية لم يسبق ان مرّت بها البلاد خلال انتقالها الديمقراطي…»

تصريح الناطق الرسمي باسم المحكمة الادارية عقّب عليه أيضا عدد من فقهاء القانون بتأكيدهم على أن ما لم يسبق ان حصل قد يحصل خاصة اذا ما كانت الرهانات في حجم هذا الاستحقاق الذي نحن بصدده أي الانتخابات الرئاسية وعدم حصوله سابقا لا يعني أنه غير قانوني أو غير دستوري وبالتالي فنحن أمام وقائع من النادر حصولها لكنّها حصلت وعلينا أن نناقشها وفق منصوصات القانون والدستور دون تشنّج ودون مزايدات سياسية خاصة وان التنازع الحاصل اليوم هو بين مؤسّستين دستوريتين الأولى لها ولاية كاملة على الانتخابات والثانية لها ـ أيضا ـ ولاية كاملة على مراقبة مدى قانونية ودستورية ما تتخذه الهيئة من قرارات خاصة في مستوى قبول أو رفض الترشحات ويبقى الفصل في الأخير «للدستور» باعتباره النصّ المرجعي الأعلى في فكّ النزاعات…

وفي تلخيص للنزاع بين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات والمحكمة الادارية فإن الطرفين قد اعتمدتا الفصل 47 من القانون الانتخابي لتبرير موقفيهما فالهيئة قرّرت رفض أحكام المحكمة الادارية على أساس منطوق الفصل المشار اليه والذي ينصّ على تسليم نسخ الاحكام وليس منطوقها الى الهيئة في ظرف 48 ساعة من تاريخ التصريح بها والمحكمة كما جاء على لسان رئيس الهيئة قد تجاوزت هذه الآجال دون ان تمدّ الهيئة بالاحكام رغم قيامها (أي هيئة بوعسكر) بلفت نظر المحكمة ودعتها كتابيا للقيام بذلك…

وفي المقابل واعتمادا ـ دائما ـ على الفصل 47 من القانون الانتخابي ترى المحكمة الادارية بأن ابلاغ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بمنطوق الحكم كافٍ في حدّ ذاته بصريح الفصل 47 من القانون الانتخابي وبالتالي فإن الهيئة ملزمة بتنفيذ قرارات الجلسة العامة شرط توصلها بالقرار أو بشهادة في منطوق الحكم كما جاء على لسان الناطق الرسمي باسم المحكمة الادارية…

وبين قراءة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وقراءة المحكمة الادارية للفصل 47 من القانون الانتخابي وبين تأويل وتأويل نجد القول الفصل التالي وفيه صواب قانوني ودستوري ومفاده بانه في حال لم تختلف قرارات المحكمة الادارية عن قرارات الهيئة العليا المستقلة للانتخابات فإن الهيئة ـ هنا ـ تكتفي بمنطوق الحكم كونه في صالحها وبالتالي هي ليست في حاجة لنسخة مكتوبة منه للاطلاع على التفاصيل وبما ان أحكام المحكمة الادارية كانت ـ كما هو معلوم ـ ضدّ قرارات الهيئة وذلك باعادة ادراج ثلاثة مترشحين ضمن السباق الانتخابي فإنه من حق الهيئة الاطلاع على الحكم كاملا ومكتوبا حتى يتسنى لها تنفيذه وذلك في مدة زمنية لا تتجاوز 48 ساعة من تاريخ التصريح بالاحكام…

وكما هو بيّن نحن أمام تنازع قانوني بين هيئتين دستوريتين من حول السلطات المخوّلة لكل منهما ما لم يحدث سابقا في كل الانتخابات التي مرّت على البلاد على امتداد العشرية الأخيرة وعليه فنحن ازاء «واقعة» غير مألوفة وهو ما يبرّر حالة التوتر بين الطرفين وما يبرّر ـ أيضا ـ حالة التشنج لدى الرأي العام الشعبي والسياسي…

نحن ـ هنا ـ أمام حالة تونسية فريدة من نوعها وأمام نقاش يخوضه العام والخاص رغم ما يستدعيه من «تخصّص» ومن كفاءة عالية لفهمه ولقراءته ولتأويله وقد خرج «النقاش» من المجال القضائي المختصّ الى «الفضاء العام» وأصبح حديث التونسيين حيث أدلى العام والخاص بدلوه عشوائيا وهذه أيضا ميزة تونسية يكمن سحرها في قدرتها على تعويم القضايا الكبرى فتلين ـ في الاخير ـ مهما استعصت..!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…