لم يخفِ الرئيس قيس سعيد في خطاب أداء اليمين للوزراء الجدد استياءه من أداء عدد من الوزراء والمسؤولين المركزيين والجهويين وجاءت كلمته واضحة ومباشرة وفيها دعوة الى تحمّل المسؤولية كاملة فالانتساب للدولة ـ كما أشرنا في ورقة سابقة ـ ليس انتسابا فخريا وانما هو انتساب كفاءة وجدارة وعبقرية تميّز «رجل الدولة» عن بقية الخلق… فهو على رؤوسنا ـ نحن كمواطنين ـ كونه «رجل عليم» وقد اصطفته الدولة لادارة شؤونها وشؤون مواطنيها ولادارة علاقاتها مع العالم ولإيجاد مخارج لكل أزماتها الداخلية والخارجية مهما كانت معقّدة ومهما استعصت…
و«رجل الدولة» بهذا المعنى لا يستجدي الأفكار وإنما يصنعها ولا يطرح أسئلة على مواطنيه وإنما هو مطالب بالاجابة عن كل أسئلتهم المتعلقة بحياتهم وبمستقبل أبنائهم…
هذا ما تقوله وما تقرّه كل الادبيات السياسية زائد خطر التعيينات في المواقع المتقدمة اذا ما كان مرجعها الولاءات على حساب الكفاءات الحقيقية وهو ما انتبه اليه الرئيس قيس سعيد مؤخرا والذي اختار حكومته الجديدة لا بناءً على الولاء للمسار وإنما بناء على الكفاءة وعلى جدية الاختصاص كل في قطاعه…
أجرى الرئيس كما هو معلوم أول أمس الأحد تحويرا وزاريا عميقا شمل تسعة عشرة حقيبة وزارية وثلاثة كتّاب دولة وأبقى على أربعة وزراء هم الداخلية والعدل والمالية والتجهيز وكان بتاريخ 7 أوت 2024 قد عيّن السيد كمال المدّوري رئيسا للحكومة خلفا للسيد أحمد الحشاني.
في نفس اليوم أي الأحد 25 أوت وبعد موكب أداء اليمين في قصر قرطاج توجه الرئيس ـ مساء ـ الى ولاية سليانة ومنها الى معتمدية السرس في زيارة غير معلنة.. وبين خطاب أداء اليمين وحديثه مع مواطني ولاية سليانة ورغم اختلاف السياق الأول عن السياق الثاني فإنّنا نعثر على الكلمات المفاتيح في حديث رئيس الجمهورية سواء في موكب أداء اليمين أو في ما تحدث به مع مواطني ولاية سليانة..
مفاتيح المرحلة ـ الآن وهنا ـ وبوصلتها أو لنقل خارطة الطريق والتي وضع لها الرئيس عناوين يؤكد عليها ـ باستمرار ـ وفي كل لقاءاته الرسمية أو الشعبية أهمّها التأكيد على ضرورة استرجاع الدولة لدورها الاجتماعي اضافة الى محاسبة وإعفاء كل المسؤولين المركزيين أو الجهويين أو حتى المحليين إن هم قصّروا في أداء مهامهم الموكولة اليهم… وهذا خيار يتجسّد بعمق في تحوير أول أمس والذي اقتضته المصلحة العليا ـ كما جاء على لسان الرئيس ـ ولاعتبارات موضوعية استعجلت هذا التغيير العميق في الحقائب الوزارية وأهمّها انعدام الانسجام الحكومي حيث كان عدد من الوزراء يمارسون اختصاصاتهم كما كان الأمر ما قبل دستور 25 جويلية ولذلك أعاد الرئيس في كلمة أداء اليمين أو هو ذكّر الوزراء الجدد بما ورد بالفصلين 101 و102 من الدستور الجديد حيث ينصّ الفصل 101 على أن رئيس الجمهورية هو الذي يعيّن رئيس الحكومة كما يعين بقية أعضائها باقتراح من رئيسها فيما ينص الفصل 102 على أن الرئيس هو الذي ينهي مهام الحكومة أو عضو منها تلقائيا أو باقتراح من رئيس الحكومة.
مع العلم أن الحكومة مسؤولة أمام رئيس الجمهورية وهو الذي يضع السياسات العامة بما يحقق الانسجام بين أعضائها ورئيسها ويبدو أن بعض الوزراء ممّن تم انهاء مهامهم قد كانوا يتحركون بشكل قطاعي منفرد ممّا خلق مراكز قرار داخل أجهزة الدولة اضافة الى تسرّب المنظومة السابقة التي عملت على احتواء عدد من الوزراء بما أربك السير العادي لدواليب الدولة وخاصة في ما يتعلق بيوميات المواطن وهذا كلّه استوجب وضع النقاط على الحروف واعادة تشكيل الحكومة وفق خارطة طريق أكثر وضوحا وضع الرئيس بوصلتها أي سياساتها العمومية بعناوينها الكبرى…
والزيارة غير المعلنة التي أداها الرئيس قيس سعيد الى ولاية سليانة ثم الى معتمدية السرس غير معزولة ـ في الواقع ـ عن التحوير الحكومي والذي جاء نتيجة فشل عدد من الوزراء في ادارة الملف الاجتماعي وعدم انسجامهم مع اختيارات الرئيس في سعيه لاعادة الاعتبار لدور الدولة الاجتماعي.. أي المرور بجدية وبنجاعة نحو دولة اجتماعية عادلة ومؤهلة لتوفير الحد الموضوعي من الحياة الكريمة لمواطنيها لكن الواقع يؤكد عكس ذلك ويكاد يعزل الدولة عن مواطنيها ما يتجلى ـ بعمق ـ في معاناة المواطنين في الآفاق المنسية وقد ادرك الرئيس بنفسه هذه المعاناة من خلال زياراته الى الجهات حيث اكتشف حجم التقصير مركزيا وجهويا ومحليا وهو ما يستدعي التعجيل بسد الشغورات في الولايات وفي المعتمديات مع الاعلاء من شأن الكفاءة في اختيار المسؤولين فالمرحلة لم تعد تحتمل إهدار المزيد من الجهد والوقت في اختيارات غير مدروسة.
ومع ذلك فانه ما يزال في الوقت متسع للتدارك وللذهاب عميقا في الاصلاح والانقاذ ومعركة التحرير التي تحدث عنها الرئيس وأعلن أنها لا يمكن ان تخاض بمعزل عن مواطني البلد هي في الواقع معركة الدولة والمجتمع لتحرير الارض من كل مظاهر الاحباط..
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…