2024-08-24

هجرة شعبة الرياضيات: أسبابها وكيفية معالجتها..؟!

لاشك ان هجرة الشعب العلمية خاصة في ما يتعلق بشعبة الرياضيات تكشفه المؤشرات المتداولة منذ سنوات وتشي دون أدنى شك بخلل في المنظومة التربوية والمراحل المرضية المتقدمة التي تعاني منها ،وتبين معضلة العزوف عن دراسة الرياضيات التي تفتح للتلميذ شهية الأسئلة والتفكيك وهو ما يفسر النقص الحاد في عدد طلبة الرياضيات بالجامعات..

العزوف عن الرياضيات وعن المواد العلمية في عصر التكنولوجيات وفي عصر نتحدث فيه عن انترنات الأشياء والذكاء الاصطناعي والبرمجة والمدن الذكية يأتي في ظرف تعرف فيه بلادنا تراجعا في مؤشرات الاقبال على المواد العلمية مؤشرات تدفع بنا لطرح السؤال التالي ماذا اعددنا لمواكبة التطورات التكنولوجية من رأسمال أكاديمي؟

تختلف آراء المتدخلين في الشأن التربوي بين من يرى ان العزوف عن الرياضيات يعود لمشكل لغوي بمعنى دراسة الرياضيات 9 سنوات بالعربية وتهميش اللغة الفرنسية في هذه المرحلة المهمة في حياة التلميذ وفجأة تظهر على انها ام اللغات وتتحول الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية من العربية إلى الفرنسية.

ويرى البعض انها دليل على نقص في الكفاءة لدى بعض الأساتذة يتمثل في طريقة التعليم التي تنفر التلميذ وبعضهم يرى انه لم يعد لدينا تلاميذ تحلل وتفكر كما أن الأولياء ساهموا في خلق جيل طبّع مع الحفظ .

وضع يجعل التفكير في المعالجة من الأولويات خاصة وان الشعب العلمية هي الأكثر تشغيلية والأكثر طلبا في سوق الشغل ،ظاهرة تدعو الى التفكير الجدي في الطرق العملية والناجعة لتشخيص الأسباب ومعالجتها.

يقول في هذا السياق رئيس جمعية الأولياء والتلاميذ رضا الزهروني ان ما يثير الاستغراب يتعلق بالواقع المتناقض لظاهرة هجرة شعبة الرياضيات يتمثل في أنّ نسبة النجاح بها هي الارفع مقارنة بالشعب الأخرى وتجاوزت حتى 80 بالمائة هذه السنة وفي المقابل فهي من ضمن الشعب الأقل استقطابا للتّلاميذ. وشعبة الرياضيات تفتح ابواب التكوين في عديد الاختصاصات ذات الطاقة التشغيلية العالية والمؤكدة وهي في المقابل من الشعب الأقل نسبة في جملة المتحصلين على شهادة الباكالوريا. ويرى الزهروني ان أسباب هذه الظاهرة منطقية ولا يتطلب الوعي بها دراسات معمقة وتتمثل وبدرجة كبيرة في تراجع مستوى التمكن من لغات التدريس وخاصة اللغة الفرنسية وفي تدريس المواد العلمية بالعربية في المرحلة الإعدادية ثم بالفرنسية في المرحلة الثانوية. ويتواصل في المقابل غياب القرارات والإجراءات التي تساهم في معالجة الظاهرة.

ويضيف محدثنا ان سلطة الإشراف اقرت في دورة جوان 2022 بهجرة التلاميذ للشعب العلمية في قراءة لنسب توزيع مترشحي الباكالوريا على الشُّعب ولم نشاهد أي ردة فعل بخصوص هجرة التلاميذ للشعب العلمية وخاصة شعبة الرياضيات والتي استقطبت حوالي 6 % فقط من مجمل المترشحين. وضعية يعتبر محدثنا أنها ما زالت على حالها إلى اليوم وقد بلغ عدد الذين اختاروا باكالوريا الرياضيات في دورة جوان للسنة الحالية 8061 تلميذ أي بنسبة لا تتجاوز بدورها 6 بالمائة اعتبارا للعدد الجملي للمترشحين المصرح به، حوالي 140 ألف مترشح.

نسب من المفروض ان تكون سلطة الإشراف على علم بتفاقمها مع السنوات ومن المفروض أيضا أن تدرك أسبابها والإجراءات المستوجبة والمستعجلة للحد من انتشارها. ويؤكد الزهروني انه ومن دون الدخول في جدل بخصوص قيمة المواد العلمية والمواد الإنسانية ومن دون الخوض في مقارنتها فشرط الموضوعية يبقى غاية يصعب تحقيقها بين من يرى ضرورة الرياضيات للنجاح في الحياة ومن يهتف بالفلسفة كأم العلوم ومن ضمنها الرياضيات، فقد أبرزت عديد الدراسات ومنذ عدة سنوات ومن ضمنها تقييمات البرنامج الدّولي المتعلق بمتابعة المستوى المعرفي للتّلاميذ (PISA) التي تم انجازها لفائدة دول مُنظمة التّعاون والنموّ الاقتصادي (OCDE) منذ سنة 2012 العلاقة التفاعليّة القائمة بين مادة الرّياضيات وتطور المجتمعات ونموها في كلّ المجالات. وهي بلدان ترصد أموالا طائلة لتعليم الرّياضيات يقينا منها بالمردودية العالية لمثل هذه الاستثمارات خاصة في ما يتعلق بالمساهمة في ازدهار شعوبها وفي خلق الثروات وتوزيع الخيرات.

فمن جهة يُمثّل مستوى التمكّن من مادة الرياضيات شرطا من الشروط الأساسية للنجاح في المسار الدّراسي بهذه الدُّول وهو من ضمن المؤشرات المعتمدة لتوقُّع كيفية تطوُّر الشّاب في حياته ولكيفية تعامله داخل مجتمعاتها. فالتفوق والتميّز في مادّة الرياضيات يُساهم بدرجة كبيرة في فتح آفاق التكوين العالي للشّاب في عديد الاختصاصات الحديثة ويرفع في مستوى طموحاته المالية وفي نسب نجاحه في حياته المهنية. فعادة ما تكون أبواب الوظائف المؤهلة لمسؤوليات ورواتب عالية وامتيازات عينيّة هامة مغلقة امام المترشّح عندما يكون مستواه ضعيفا في مادّة الرياضيات.

ومن جهة ثانية يُنمّي التّفاعل الايجابي مع الرّياضيات رغبة الفرد في القيام بالأعمال التطوعية وكذلك رغبته في المساهمة بصفة فعّالة في الشؤون السياسيّة والعامة. ويرفع عنده درجة الثقة بالنفس وبالغير ويُطور وعيه بالمواطنة خاصّة في ما يتعلّق بمفهوم قيم المساواة والصدق والتفتّح على الغير.

لنعي جيدا وفق محدثنا انّ هناك العديد من الأفراد يستحيل عليهم اليوم استعمال قاعدة ثلاثية أو البحث عن نسب مائوية أو احتساب مساحة أو حجم أو التّعامل مع منوال في الرياضيات أو مع معطيات إحصائية ومع أبعادها الواقعية والاستشرافية. فمثل هؤلاء الأفراد يجدون صعوبة كبيرة للتّعامل مع الأرقام بدقّة وبسرعة وتتقلص معها حظوظهم للنجاح في وظائف ومسؤوليات قياديّة ويكون أداؤهم عادة دون المطلوب. ففي الغالب ما يجدون صعوبات كبيرة لتصوّر تطور وضعيات ماليّة أو وضعيات معقّدة تخصّ حياتهم المهنية وحتى حياتهم الشّخصية.

ومن جهة أخرى فإن الفرد الّذي لا يتمكن من محتوى الكتابات الفلسفية والأدبية واطروحاتها ولا يتمكن من معاني المفردات وعمق الأفكار الواردة بها وليس له وعي ودراية بقيم الحياة وبطبيعة الإنسان وبحاجياته العاطفية والمعنوية سيجد صعوبات للتّعبير عن أفكاره وآرائه ولتبليغ مقاصده ومطالبه. وبالتالي سيتقلّص أداؤه القيادي في حياته المهنية وستتأثر سلبا نوعية معاملاته مع الآخر عائليا واجتماعيا وعاطفيا وستتقلص معها درجة إدراكه بكلّ ما له علاقة بمعاني الحياة وبإبعادها.

فمن الضروري وفق الزهروني الإقرار بأنّ عدم حذق اللغات من طرف أبنائنا يندرج ضمن الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة بالإضافة إلى ما يتسبب فيه الوضع من عديد الأمراض الخطيرة التي تعاني منها المدرسة التونسية كالانقطاع المبكر عن الدراسة وتراجع مستوى التحصيل المعرفي وتنامي ظاهرة الغش وظاهرة الدروس الخصوصية وظاهرة العنف المدرسي. فعدم حذق اللغات ينعكس سلبا على درجة فهم المواد الرئيسية التي تُدرّس بهذه اللغات. حيث أكدت كل التقييمات الوطنية والدولية ضعف المستوى العام لتلاميذنا في مواد التعبير والعلوم والرياضيات وذلك منذ عدة سنوات وفي عديد المناسبات.

ومن هذا المنطلق يبدو من البديهي على حد قوله العمل على تعميم وتدعيم تدريس القراءة والكتابة والحساب في المرحلة الابتدائية والرياضيات والفلسفة الآداب واللّغات في كلّ شُعب التّعليم الثانوي مع توحيد لغة تدريس المواد العلمية في المرحلتين الإعدادية والثانوية وكسر الحاجز المعنوي المتمثل في أنّ الطبيعة تُصنّف العقول لتؤهلها إما لاستيعاب المواد العلمية والرياضيّات فحسب أو المواد الأدبية والفلسفة دون الرّياضيات من خلال توحيد ضواربها مثلا. فالتمكن من لغات التّدريس بالمستوى المطلوب سيساعد التلميذ بدرجة كبيرة على تعلم المواد العلمية والتقنية ومن ضمنها الرياضيات والمواد الأدبية والتربوية والفنية ومن ضمنها الفلسفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

الدكاترة الباحثون المعطلون عن العمل : المراهنة على البحث العلمي آلية للبناء على أسس صلبة

نظم  أمس الأربعاء الدكاترة الباحثون المعطلون عن العمل مسيرة انطلقت من وزارة التعليم العالي…