احتفلت تونس يوم الجمعة 16 أوت 2024وككل الشعوب المتحضرة بيوم العلم وكرّمت أبناءها المتفوقين من مختلف ضروب العلم والمعرفة الانسانية وكان ذلك في حفل ضخم بقصر قرطاج تحت اشراف الرئيس قيس سعيد وبحضور أعضاء الحكومة وكانت فيه للرئيس كلمة مطولة شخّص خلالها واقع التربية والتعليم في تونس منذ دولة الاستقلال مرورا بالثمانينات من القرن الماضي والتي شهد خلالها القطاع تغيرات وتعديلات مختلفة تحت عناوين الاصلاح والتي فرض بعضها من الخارج فتراجعت المكتسبات ـ كما جاء في تشخيص الرئيس ـ عوضا من أن يتم دعمها وتطويرها في ظلّ اختيارات وطنية خالصة تتلاءم مع التطورات العلمية المتسارعة… ومن أهم ما ورد في احتفالية يوم العلم قول الرئيس :« لا يمكن انكار النجاحات التي تحققت أو انكار الاخطاء وتجاهل الجرائم التي ارتكبت في هذا القطاع الذي يعتبر من قطاعات السيادة… ولا يمكن في الوقت نفسه الا أن نفتخر بالكفاءات التونسية في كافة المجالات…»
في ختام الحفل منح الرئيس وسام الاستحقاق بعنوان التربية والتعليم بصنفيه الثالث والرابع الى عدد من الأساتذة والاداريين بالمؤسسات التربوية والجامعية اعترافا باسهاماتهم في اعلاء شأن العلم والمعرفة بالبلاد التونسية.
بعد احتفالية يوم العلم وما تخلّلها من تكريمات ومن أوسمة سيادية انتظمت ـ في نفس اليوم ـ أي الجمعة 16 أوت احتفالية خاصة بالمتفوقين في القطاع الرياضي حيث اسند الرئيس قيس سعيد الوسام الوطني للاستحقاق بعنوان قطاع الرياضة الى عدد من الرياضيين ممّن تميزوا في الدورة الأخيرة للألعاب الأولمبية وحث الرئيس الرياضيين المكرمين على مزيد البذل من أجل رفع الراية الوطنية عاليا ودعاهم الى التحلّي بثقافة الانتصار…
في الأثناء وعلى هامش هذه الاحتفالات بالتربية والتعليم والرياضة واهتمام أعلى هرم السلطة بهذه القطاعات ومع تأكيدنا على أن قطاع التربية والتعليم هو قطاع سيادي بكل ما في الكلمة من حمولة رمزية ثقيلة فإن قطاعا اخر لا يمكن فصله عن التربية والتعليم قد ضاع وسط التهميش والنسيان الذي رافقه منذ تسعينات القرن الماضي أو أكثر وهو صنو التربية وقرين التعليم ولا يقل عنهما أهمية في مستوى قدرته على تربية الناشئة وعلى تدريب المجتمع على قيم المواطنة وعلىقيم الديمقراطية وعلى إشاعة الوعي بالحقوق والحريات والعيش المشترك وعلى احترام التعدّد والاختلاف.. ونحن نتحدّث ـ هنا ـ عن قطاع الثقافة بكل عناوينه نتحدث عن المسرح والسينما وعن الفن التشكيلي.. نتحدث عن الثقافة وأهلها من كتاب الرواية والشعر وكل المنتمين اليه من فنانين وتقنيين من مختلف الاختصاصات… نتحدث عن قطاع ما يزال العاملون فيه الى يوم الناس هذا بلا تغطية اجتماعية أو صحية وبلا قانون ينظّم مهنة الفنان ويحميه من مصائب الدهر.. قطاع ما يزال عدد كبير من أهله يتسوّلون ارزاقهم ويمدّون الأيادي لوزارة الثقافة حتى تمنّ عليهم «بمنحة» لا يمكن أن تضمن لهم الحدّ الادنى من العيش الكريم.. قطاع يموت «شيوخه» في صمت مالم يتم التدخل من أجل قبولهم في المستشفيات العمومية ما حصل مؤخرا مع الفنان الكبير عيسى حراث وقد تدخل الرئيس من أجل قبوله بالمستشفى العسكري بعدما انعدمت أمامه السبل وقبله آخرون كُثُر قتلهم المرض أو النسيان…
في قطاع الثقافة ـ رغم بؤس الحال وضيق الامكانيات والارزاق ـ ثمّة أيضا انتصارات كبرى وحقيقية في المسرح كما في السينما كما في الرواية وفي الفنون التشكيلية وما تزال تونس صاحبة الريادة ومرجعا في مختلف الفنون الراسخة في تاريخ وفي جغرافيا هذا البلد… وكثيرون ـ وخاصة ـ في مجالات المسرح والسينما والرواية قد تم تتويجهم في تظاهرات عربية ودولية مرجعية وقد مروا في صمت ودون ضجيج اعلامي ومع ذلك يستمرون بنفس العزائم وهم «يتغذون» بما يحظون به من تقدير وتبجيل في التظاهرات العربية والدولية..
في المسرح التونسي ـ مثلا ـ ثمّة منجز ضخم ممتد من ستينات القرن الماضي الى غاية اليوم وعلى هذا الامتداد صنعت الاجيال مسارات مختلفة وقدمت أسماء تحولت الى أسماء مرجعية ولها تجارب راسخة ضمن تاريخ الابداع المسرحي العربي والعالمي ونفس الشيء في السنما وفي مختلف الفنون المجاورة…
فما الذي يجعل من هذا القطاع قطاعا منسيا وهو العنوان الابرز من عناوين الهوية الوطنية..؟ ما الذي يجعل منه قطاعا على هامش السياسات العمومية التي تعتبر الثقافة والفنون مجرد «حصص ترفيه» على حدّ تعبير أحد رؤساء الحكومة السابقين…؟
لقد أشرنا أكثر من مرّة ونعاود ـ هنا ـ تكرار نفس المعنى بالتأكيد على أنه لا يمكن التعاطي مع الشأن الثقافي بمعزل عن التربية والتعليم بل إن التعليم بلا ثقافة وبلا فن وبلا معرفة هو تعليم أعوج وبلا خيال يقوم على التلقين وعلى التسليم بما هو جاهز ونهائي دون تفكير ودون وعي نقدي ما يؤدي في الأخير الى صناعة مجتمع غير عقلاني لا يؤمن بالحوار ولا بالنقد وطارد لكل أشكال التفكير الحرّ…
الثقافة وأهلها في حاجة الى تكريمات والى اعتراف أيضا وكل ما يحظون به من تقدير ومن تتويجات عربية أو دولية لا تضاهي اعترافا وطنيا حقيقيا… وعليه فإنّه لا ضير من احتفالية وطنية تعلي من شأن الفنانين والمبدعين فهم «واجهة البلد» وهم صورته الحقيقية وهم فخر هذا الوطن الذي نسميه تونس المحروسة والتي يليق بها ان تكرّم «أهل الثقافة» فهم أبناؤها أيضا ونسيانهم مؤلم ان استمر… لذلك نحن في انتظار احتفالية نتوقعها تماما كما حدث مع أهل التربية والتعليم والرياضة…
مع العلم أنّ قطاع الثقافة ـ برمّته ـ في حاجة الى اعادة بناء كبرى ولذلك نرجو ان يراعي التحوير الحكومي المنتظر خصوصيات هذا القطاع وملفاته العالقة بأن يتم تكليف من هو مؤهل لهذا الحمل الثقيل الذي نسميه «وزارة الثقافة» وهي «ثكنة بيروقراطية» معطّلة تحتاج الى مشروع انقاذ أو «حرب تحرير» تعيد ترتيب الفوضى..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…