«الانسان عدواني بطبعه».. هذه مقولة ليس لدينا تحفظ في شأن محتواها ـ حتى وإن كان محتوى عدوانيا ـ فكلّ الدلائل على أرض الواقع العالمي تؤكد على أنّ العقل البشري قد تخلّص نهائيا من الجانب الخيّر فيه أو هو قلّص منه أو غفل عنه ليعلي من الجانب العدواني والذي تتجلى «عبقريته» في كل هذه الحروب العبثية وفي كمّ التدمير والحقد والكراهية المحيطة بالبشرية وهو العقل ذاته الذي يحكم العالم ويديره منذ الحروب البدائية السحيقة الى الحروب الحديثة في شكلها الجديد..

تحتاج الانسانية اليوم وهي في المفترق الخاطئ متعدد الأزمات الى تجديد وجودها والى اعادة تأصيله بما ينزع عنه كل هذا الاحباط المعمّم الذي ضرب البشر في مقتل وحوّل حياتهم الى ما يشبه الجحيم.

ما يحدث في العالم اليوم من حروب ودمارات وإبادات قيامية إنما يدعو الى اعادة التفكير في طبيعة الوجود البشري وفي اسباب هذا الجحيم المعولم الذي تعيشه البشرية… انظروا ما يحدث من عبث في السودان من قتل ومن تدمير ومن جرائم بين الاشقاء المتقاتلين من حول السلطة.. انظروا ما يحدث في الشرق الأوسط من لبنان مرورا بكل الأراضي الفلسطينية حيث الجريمة على المباشر التلفزيوني… تأملوا ما يحدث في الحرب الروسية الأوكرانية من تدمير ومن جرائم باسم الشرعية وحق الدفاع عن النفس.. تأملوا ما يحدث في دول الحداثات المبكّرة وما بعدها من تدمير لكل القيم الانسانية ولكل ما تحقق عبر نضالات الشعوب من أجل اعلاء قيم المواطنة والحقوق والحريات…

انظروا كيف تحولت الديمقراطيات الراسخة ـ كما يقال ـ الى ديمقراطيات فرز على أساس اللون والعرق والجنس والهوية… ديمقراطيات لا يضيرها الدفاع عن جرائم الابادة الجماعية التي يرتكبها تتار العصر حيث المجازر والمحارق تبتلع الأطفال والنساء والرجال بلا شفقة…

العالم اليوم بين حرب وحرب بين أوهام سلام متوقع واحتدام لا يهدأ أبدا بحيث أصبحت مصطلحات من مثل حقوق الانسان والحريات والسلام  مصطلحات فارغة وبلا محتوى بل هي مجرّد هراء على منابر افتراضية معزولة عن الواقع الذي تنذر كل معطياته أو هي تؤكد بأن الانسان بصدد انتاج نهاياته أو بصدد التهيّؤ «لموته» ـ تماما ـ كما كان أعلنه «ميشال فوكو» (موت الانسان) والذي يؤكد على أن الانسان لم يعد قادرا على ترتيب الفوضى وان الفكر المعاصر قد أصبح عاجزا ولم يعد بامكانه التقدم والتطور الا ضمن شروط أخرى وأهمها غياب الانسان ذاته… فالاختفاء النهائي للانسان هو الذي سيعيد للبشرية مجدها…

نحن ـ هنا ـ أمام تفكير قصووي يعبر عن يأسه من البشرية ويندب وجودها الذي يتجه نحو حتفه مباشرة بعدما فشل في خلق نقطة حسم واحدة تمنح للانسان طمأنينة نهائية… وهي قصووية تقصد هدم كل الأوهام التي كانت تؤمن بأن الأديان ـ مثلا ـ قادرة على انهاء مأساة الانسان وعلى اصلاح العالم.. قصووية تهدم ـ أيضا ـ كل المقولات التي كانت تعتقد بأن العقل البشري الذي ابتدع كل أشكال الحروب وآليات الدمار بامكانه ايضا ان يبتدع السلام وآلياته لكن هذا «العقل» الذي صنع «مجد الانسان» ومنحه التفرد عن باقي الكائنات لم يتمكّن من الإطاحة بالجانب العدواني المسيطر عليه والذي يدفعه  باستمرار الى تطوير كل أشكال التدمير للوجود الانساني وهو تدمير ذاتي يصنع موته ويعلنه بفضل «عبقريته» أي «عبقرية العقل» الذي لم يتراجع ـ رغم وعيه بأنّه بصدد التهيّؤ لموته ـ عن ابتداع وتطوير كل أشكال وآليات «الجرائم الكبرى»..

نحن ـ هنا ـ أمام «أزمة عقل» معولمة تشهدها المجتمعات والشعوب والأنظمة السياسية بحيث لم يعد «للانساني» بما هو نزوع قيمي وأخلاقي ومعرفي أي معنى بل مجرد وهم يتهافت عليه الشعراء والمغلوبون علىأمرهم سواء كانوا شعوبا أو دولا ممّن يعانون من «هشاشة عقلية» تدفعهم للتمسك بما أسميناه «نزوعا إنسانيا» لا لطبيعتهم الخيّرة وإنّما بسبب «هشاشتهم العقلية» التي لا تؤهلهم لمواكبة أو «لمجاراة» ما يصنعه «العقل العدواني» الذي يدير العالم بقوّة وبصرامة لا يضيرها تدمير البشر وإبادتهم من أجل الاستمرار في السيطرة على الثروات ومصادرها..

قلنا ـ بداية ـ بأنّ العالم اليوم يقف في المفترق الخاطئ متعدّد الأزمات وهو في حاجة الى أفكار جديدة لتأصيل كيانه بعيدا عن كل أشكال التدمير الذاتي التي صنعها الانسان لنفسه.. وبما أنّ الإصلاح والتجديد يبدأ من الأرض التي نقف عليها فإنّه علينا أن نبدأ بأنفسنا أولا ومن على هذه الأرض التي ننتمي اليها بشروط الانتماء الحقّ لا انتماء انتهازيا من أجل جاه أو مال أو سلطة أو حظوة وإنّما انتماء مواطنيا يؤمن «بدولة الرفاهية الاجتماعية» التي تضع كل سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية من أجل خدمة مواطنيها والتي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والحريات والواجبات والمؤهلة للإجابة عن أسئلة الصحة والتعليم والنقل وكل ما يضمن العيش الكريم لا في حدّه الأدنى وإنّما في حدوده الموضوعية التي تتقلص بموجبها الفجوة بين المواطنين فلا ثراء فاحش ولا فقر مدقع.. مع التأكيد على اعلاء ثقافة الاختلاف والانصاف والعدل حتى يستمرّ العمران…واستمرار العمران يلزمه «عقل بهيّ»..!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

تشوّهات على واجهة المنظّمة الشّغيلة..!

 لا أحد كان يتوقع ان يصل الاتحاد العام التونسي للشغل الى هذه الحال من التردي والانقسام وال…