من عروض المسرح التونسي في المهرجانات الصيفية: “رقصة سماء” للطاهر عيسى بالعربي: عندما يخترق الحب الأزمنة والحدود
من بين الأعمال المسرحية التونسية الجديدة التي قدّمت على أركاح المهرجانات الصيفية ومنها مهرجان الحمامات الدّولي في دورته الجديدة مسرحية”رقصة سماء” للطاهر عيسى بالعربي وهي من انتاج مشترك بين المسرح الوطني وعدد من مراكز الفنون الدّرامية الجهوية هنا قراءة في هذا العمل المرشّح للمشاركة في الدورة القادمة من أيام قرطاج المسرحية:
مسرحية”رقصة سماء” للمخرج التونسي “الطاهر عيسى بالعربي” من الأعمال التي يمكن أن نستدلّ بها لتأكيد قدرة الفن المسرحي اللامتناهية على استيعاب كلّ الفنون القديمة والمستجدّة. فهذا العرض الذي امتدّ على ساعتين من الزمن يكسر بلا شكّ أفق التوقّع التقليدي للعمل المسرحي إذ أنّ جزءا كبيرا من العرض كان سينمائيا من خلال ما تمّ بثه على شاشة مستطيلة عملاقة استحوذت على نصف مساحة الرّكح تقريبا. ولم يكن ما تمّ بثّه سينمائيا خالصا على اعتبار أن الشاشة التي تمّ وضعها على الرّكح كانت شفافة بصورة تمّ فيها مزج ما تمّ عرضه بمشاهد تمثيلية وهذا من وجوه الطرافة والابتكار لفنان جمع بين التكوين السينمائي والمسرحي .
بين القصة الإطار والقصص المضمّنة
ولم يكتف العرض بهذا التوظيف المسرحي المبتكر لتقنية العرض السينمائي فقط بل جعل من فضاءات التصوير السينمائي وتقطيع المشاهد وكلّ ما يجري من نقاش وحوارات جانبية بين الممثلين والمخرج والمنتج والمصوّر القصّة الإطار كما تمّ الاصطلاح عليها داخل العرض لما جرى من قصص مضمّنة جسّدها الممثلون في مواقف ووضعيات درامية، قسم منها من المعيش اليومي الرّاهن لعائلة تونسية من الأرستقراطية (عائلة البسطبجي) تواجه مشكلة قرار ابنتهم المراهقة الزواج من شاب من محيط شعبي فقير وما أثاره كلّ ذلك من ذكريات ومواجع والقسم الآخر ممّا جرى في القرن الثالث عشر ميلادي بين قطبين من أقطاب التصوّف وهما جلال الدّين الرّومي وشمس الدّين التبريزي. ولم يكن هذا الإسراء من القرن الواحد والعشرين إلى القرن الثالث عشر من قبيل الفانتازيا الشكلية وإنما كان له مبرّر درامي وسط الأحداث وفي قصة الشخصية المحورية من خلال تشابه قصص الحبّ التي لا تعترف بالفوارق بين الحاضر والماضي وهو الذي تؤكّد عليه رواية الكاتبة التركية “الين شافاق” “قواعد العشق الأربعون” التي انطلق منها مخرج العمل في كتابته لهذه المسرحية.
ينطلق العرض بمشهد يحكي فيه الممثلون المشاركون في التصوير مع مخرج العمل عن ظروف الانتاج الصعبة ماديا والتي تجبرهم على التضحية ببعض المشاهد بسبب كلفتها الباهظة ويتطارحون في أثناء ذلك بروح هزلية قضايا الإنتاج السينمائي وواقع الفنان في تونس ويبدو أنّ الإجابة عن هذا التحدّي تأتي من العمل ذاته حيث أمكن للمخرج عبر توظيف تلك الشاشة الشفافة والمتحرّكة من ركوب آلة الزمن و الانتقال بسرعة الضوء من الحاضر إلى مجالس الأمراء والمتصوّفة في القرن الثالث عشر بالاعتماد على ذات الممثلين الذين يغيّرون ملابسهم واكسسواراتهم ولغتهم(من الدّارج إلى الفصيح) بما يتناسب والفترة التّاريخية. كان انتقال الشخصيات من خشبة الرّكح إلى الشاشة المثبتة واختراقهم لها يسيرا بمجرّد وضعهم للحاف أو عمامة أو امتشاقهم لسيف أو أكسسوار تراثي آخر ولم تتوقّف الإشارات في آداء الممثلين وبالخصوص حامل كاميرا التصوير لتذكير المشاهدين بأنّهم بصدد متابعة ظروف تصوير لقطات ومشاهد خاصة بفيلم في طور الاعداد. ولم تمنع هذه النزعة البريشتية اللّجوجة انتشار الروح التخييلية للعرض الذي يتغذّى في خلفيته من رواية”قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية “الين شافاق” كما تمّت الإشارة إلى ذلك في آخر العرض.
“إسراء” من القرن الواحد والعشرين إلى القرن الثالث عشر
كان التباعد واضحا تاريخيا بين المحكي الرّاهن الذي جاء بدارجة محلّية تونسية وبأداء مسرحي تغلب عليه النزعة الواقعية في عفويتها وحدّيتها وروحها الهزلية والمشاهد التمثيلية التي جرت بالعربية الفصحى وبأداء مسرحي”فانتازيّ” يذكّر بالأفلام والمسلسلات التاريخية بما فيها من فخامة وجلال. ولم يبرز التقارب في تقمّص الممثلين ذاتهم لشخصيات مختلفة فقط بل في غرض القصّة ذاتها حيث تستأنف طرح السؤال الجوهري عن الحبّ وحاجتنا الرّوحية له في كل زمان ومكان وذلك من خلال التركيز على قصة امرأة تدعى “هالة” تواجه مشكلة قرار ابنتها الزواج من شاب من غير طبقتهم الاجتماعية وأمام إصرار البنت تكتشف هي نفسها أنّها لم تعرف الحب مع زوجها وأنّها ورثت هذا البرود من والدتها وخلال مطالعاتها (بحكم عملها ناقدة أدبية لدى دار نشر) تتعثّر برواية لكاتب مغمور يدعى “عزيز زهرة” يتحدّث فيها عن العشق الصوفي بين جلال الدين الرومي والتبريزي وكيف أمكن لذلك الفتى “التبريزي” أن يحرّر الشيخ “جلال الدّين الرومي” من جبّة الفقيه ويرقى به إلى مدارج العشق والرؤيا والشعر. تنجذب “هالة” إلى أسلوب “عزيز” الآسر في الكتابة وتقع في حبّه وتتمكّن من لقاءه وهو يصارع مرض السرطان في مراحله الأخيرة. وهكذا تتعلّم منه الشعر عبر فنّ الرّواية كما جلال الدين الرومي تعلّم الشعر بعشقه لقرينه شمس الدين التبريزي.
على سبيل الخاتمة
لقد تمكّن “الطاهر عيسي بالعربي” من “تونسة” رواية “قواعد العشق الأربعون” للكاتبة التركية”ألين شافاق” ثمّ من “مسرحتها” مع الالتزام بالرؤية السردية ذاتها حيث يتكرّر أو”يتناسخ” البحث الرّوحي ذاته عن القرين الذي به تستكمل دائرة الوجود وتنشأ رقصة العشق الأبدي العابر للمادي والدّنيوي، المخترق للحدود والجغرافيا، الملتزم بقواعد العشق الاربعين والتي تقول قاعدته الأولى كما جاءت في الرّواية:”إن الطريقة التي نرى فيها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي نرى فيها أنفسنا، فإذا لم يكن الله يجلب إلى عقولنا سوى الخوف والملامة فهذا يعني أن قدرًا كبيرًا من الخوف والملامة يتدفق في نفوسنا، أما إذا رأينا الله مفعمًا بالمحبة والرحمة فإننا نكون كذلك. وتقول قاعدته الأخيرة:” لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي .. فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو نقي وبسيط. العشق ماء الحياة، والعشيق هو روح من نار !يصبح الكون مختلفًا عندما تعشق النار الماء”
ذلك هو جوهر المعنى ورسالة مسرحية “رقصة سماء” التي يدور فيها الممثل والسرد والماضي والحاضر كما تدور الكواكب حول الشمس، كما يدور الدراويش حول أنفسهم في رقصهم الصوفي وهم يغوصون في دواخلهم ليتمكنوا من التحرّر والانعتاق من السطحي والمادي إلى ما هو جوهري وأصيل في الانسانية وهي ترنو إلى سعادة لا يمكن أن تتحقّق إلا بالعشق. وللإشارة فإنّ”رقصة سماء” التي اختارها المخرج عنوانا لهذا العمل هي الرقصة التي ابتدعها جلال الدين الرومى بإلهام من شمس التبريزى فانتشرت في المذهب الصوفي تحت اسم “سما” أو “المولوية”.
رئيس الجمعية الدولية للمسلمين القرآنيين الدكتور«توفيق بن عامر» في حديث لــ الصحافة اليوم: التصوّف هو روح كلّ دين وهو إطار لحلّ مشاكلنا العقائدية وحتّى السياسية
كان موضوع أطروحة الدكتوراه للأستاذ«توفيق بن عامر» سنة 1986 حول «الرقّ في الحضارة العربيّة …