2024-08-04

في حالة أقل ما يقال فيها أنها كارثيّة:  إنقاذ قطاع النقل ليس غاية صعبة المنال..!

«النقل صار معاناة يومية داخل المدن وبينها».. هكذا وصّف رئيس الجمهورية قيس سعيد حالة النقل في بلادنا خلال لقائه أول أمس الجمعة 2 أوت الجاري بوزيرة التجهيز والإسكان والمكلفة بتسيير وزارة النقل سارة الزعفراني الزنزري، وذلك يوما فقط بعد زيارته الميدانية لوسط العاصمة وقد سبق له أن أدّى زيارات متعدّدة الى مؤسسات النقل العمومي ووقف على حالة الوهن التي تعيشها ولم تتغير الأوضاع رغم ذلك للأسف وهو ما دفعه هذه المرة لأن يكون أكثر صرامة ووضوحا في حديثه عن ضرورة إعداد استراتيجية لـ«إعادة المرفق العمومي للنقل وتطويره للاستجابة للحق المشروع للمواطنين في هذا المرفق الحيوي».

ويأتي طرح ملف النقل بشكل عام، والعمومي منه بشكل خاص، في زمن انتخابي دقيق يمثل مناسبة للتشخيص والتقييم وتحديد المسؤوليات والبحث بطبيعة الحال عن الحلول لقطاع لسنا نغالي حين نقول انه في الإنعاش او في حالة موت سريري.

وتؤكد المعطيات التي كشفها رئيس الجمهورية بوضوح ان منظومات الحكم المتعاقبة لم تفشل فقط في تحقيق انتظارات التونسيين وتطوير الخدمات العامة، ولكنها فرّطت في منجز الدولة الوطنية ودمرته لنصل على سبيل المثال من  1157 حافلة للنقل العمومي في شركة نقل تونس في 2011 الى 350 حافلة فقط سنة 2024، ولا يختلف الحال عن المترو الخفيف وعن قطارات الأحواز والخطوط البعيدة وكذلك الطائرات لدرجة أصبحت فيها حالة «الغزالة» موضوعا  للتندّر..!

إن أزمة قطاع النقل شاملة وهيكلية، ولا يمكن النظر إليها والتفكير في حلها بطريقة مفكّكة أو انتقائية أو جزئية أو بطيئة أيضا باعتبار أننا نحتاج فورا إلى وقف النزيف، والشروع في الإنقاذ باتخاذ ما يتوجب من إجراءات عاجلة والإعداد الجيد لما هو متوسط وبعيد المدى فالنقل مرتبط بالتجهيز ومرتبط بالأمن والسياحة والتجارة والتعليم والاقتصاد.. في كلمة هو عصب الحياة في المجتمع والدولة ومعادلة العام والخاص ضرورية في عصرنا الراهن والتكامل بين الدور الاجتماعي للدولة ودور القطاع الخاص لا مناص منه.

إننا مدعوون بداية إلى ترتيب ما هو هيكلي، فالإقرار بأهمية النقل يستوجب تعيين وزير على رأس هذا القطاع الحيوي، وإعلان ما يمكن ان نسميها حالة الطوارئ المالية لتخصيص اعتمادات استثنائية ضرورية عاجلة لاقتناء الحافلات والقطارات والطائرات والتجهيزات اللازمة لإصلاح ما يمكن إصلاحه دون إهدار للمال العام.

ولا نخال ان التونسيين سيتأخرون في المساهمة مثلا في اقتناء سندات وإقراض الدولة إذا توفرت خطة واضحة لإنقاذ قطاع النقل، أو تعديل ميزانية الدولة بشكل أو بآخر لإيجاد اعتمادات خاصة لذلك، ونتذكر جيدا المرونة التي تمت بها إضافة نسب هامة في ميزانيات الداخلية والدفاع خلال السنوات التي خضنا فيها الحرب على الإرهاب..

في الجانب الهيكلي دائما، لا مناص من وضع «ملفات» مؤسسات النقل العمومي على الطاولة كما يقال والحسم في اختيار كفاءات وطنية على رأسها على قاعدة برنامج عمل أو كراس شروط مرتبط بجدول زمني وبشروط ذاتية وموضوعية يتفق حولها الجميع ويلتزم بها.

وبعيدا عن الشعارات يجب ترجمة مقولة الحوكمة الرشيدة داخل قطاع النقل وداخل كل مؤسسة عمومية للنقل حيث لا يعقل أن تتضخم الموارد البشرية وأن تسند الوظائف والامتيازات وتتم الانتدابات كما اتفق بعيدا عن الحاجة وبعيدا بالخصوص عن المعايير الدولية، فحجم الأعوان والإطارات بالنسبة إلى كل طائرة او حافلة او عربة قطار معلومة على المستوى الدولي في الوقت الذي يتحدث فيه كثيرون عن تجاوز هذه النسبة بكثير في بلادنا بشكل «برّك» الشركات الوطنية وأنهكها وأدخلها غرفة الإنعاش كما أسلفنا.

ان صيحة الفزع التي أطلقها رئيس الجمهورية يطلقها كل يوم ذاك الطالب او تلك العاملة في المصنع أو ذاك الموظف الذي يريد التنقل من حي شعبي إلى وجهة بسيطة داخل العاصمة فتتحول الرحلة إلى مأساة..

صيحة الفزع يطلقها المسافر من قابس عبر «قطار العجائب» ليصل للعاصمة بعد 12 ساعة في الوقت الذي تقضي فيه سيارة أجرة خاصة نصف الوقت..

الصيحة يطلقها أفراد من الجالية وبعض التونسيين الذين يختارون، أو قد لا يختارون طوعا الخطوط التونسية، فإذا سلمت الحقائب من الإتلاف والسرقة تأخر موعد الاقلاع لأسباب يعلمها أهل «الغزالة» فقط..

والحديث عن الاستراتيجية ليس من باب المغالاة أو تعقيد الأمور او استعراض العضلات اللغوية، فالأمر يتعلق في النهاية برؤية يجب ان تكون واضحة وواقعية ومتكاملة بين جميع الأطراف ومبنية على وعي وحس والتزام أخلاقي ووطني.

والأمر يتطلب كذلك شيئا من الجرأة والمغامرة، فإذا اقتضى الأمر إيقاف أو تعليق العمل بشركة لفترة محدودة لإعادة هيكلتها، أو تركيز ورشة إصلاح وصيانة حقيقية فيها ما يكفي من الكفاءات والخبرات و«الصنايعية» المنتدبين على أسس سليمة، أو توفير البنية التحتية المناسبة للحياة، ونتحدث هنا بشكل خاص عن شركة السكك الحديدية التي أصبحت غير قادرة على تأمين رحلات منتظمة ومتواترة للمسافرين مع غياب الرحلات التجارية ونقل السلع عبر الخطوط البعيدة، فلن تكون بذلك نهاية الدنيا.

وحتى من الباب الجمالي والاستيتيقي، مؤسف جدا ان تتجول عربات المترو في قلب العاصمة وهي في حالة يرثى لها، نوافذها وأبوابها مهشمة وبقايا المعلقات الاشهارية المقرفة مثبّتة على جنباتها، فهل أصبح تنظيف وسيلة نقل عمومي أمرا مستعصيا الى هذا الحد؟.

ولا ننسى الجانب الأمني، ولا نتحدث هنا عن السلامة داخل وسائل النقل ولكن في محيط محطات النقل وأحيانا حتى داخل وسيلة النقل ذاتها فالعنف اللفظي تجاوز كل الحدود والعنف المادي متفشّ أيضا ومن تمظهراته عمليات السرقة المتواترة..

المسألة إذن شائكة والاستراتيجية الوطنية تستوجب تدخل جميع الأطراف الوطنية ضمن معادلة التكامل بين القطاعين العام والخاص والدور الجوهري للدولة دون تأخير بقطع النظر عن الأزمنة السياسية والانتخابية لأن حال قطاع النقل الذي لا يختلف عن قطاعات الصحة والتعليم وغيرها لم يعد يليق بتونس والتونسيين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

تونس تفي بتعهداتها وتتكبّد تكاليفها أكثر من شركائها: المقاربة الشاملة في مقاومة الهجرة غير النظامية متعثّرة

استبشر الجميع قبل سنة ونيف بالتوافق الواسع بين شركاء الجغرافيا في حوض البحر الأبيض المتوسط…