ما بين نوستالجيا مرضية وما بين إنكار متعمّد للفكرة والرجل تتأرجح علاقتنا بالزعيم بورقيبة وما بين شخصنة تصل حد التأليه وما بين نفي للمنجز وتبخيس للدور نتعاطى مع مشروع وأداء أول رئيس للجمهورية التونسية.

والسؤال المطروح هنا : ألم يحن الوقت للقيام بمراجعة عميقة للمشروع البورقيبي من أساسه ؟

ولماذا لا نقرأ شخصية الزعيم من زوايا مختلفة ومتقاطعة في الآن ذاته مع مراعاة السياق والمرحلة ؟

ما الذي بقي اليوم من الرجل وفكره ؟

ولماذا ظل خالدا في أذهان عموم التونسيين  رغم كل العواصف التي عرفها المشهد السياسي ورغم التحولات الكبرى التي شهدتها بلادنا ؟

إذن تخامرنا هذه الأسئلة وغيرها كثير بمناسبة ذكرى ميلاد الزعيم الحبيب بورقيبة الموافق لـ 3 أوت 1903. التي تعود في كل سنة ومعها سجالات يبرع التونسيون وتحديدا بعض المحسوبين على النخب في اطلاقها والإمعان في التحليل والتأويل بشأن هذه الشخصية المحورية في تاريخ تونس المعاصرة، والتي كان من الممكن ان تكون من قبيل «المشترك» الجامع لو كانت في شعب آخر لكننا اخترنا عن غير وعي وادراك ان نجعلها من قبيل «المختلف عليه» لدواعي سياسية وإيديولوجية وحتى جهوية أحيانا.

هنا علينا ان ننطلق من معطيات أقرب إلى الموضوعية ونحن نقارب شخصية فذة سواء اختلفنا او اتفقنا بشأنها فالزعيم بورقيبة كان صاحب رؤية ثاقبة ومشروع تقدمي رائد وسابق لعصره بالمقارنة مع محيطه الإقليمي. كما أنه امتلك كل مقومات الشخصية الكاريزماتية كما حددها شارل رايت ميلز وليس كما يطلقها البعض هنا وهناك جزافا ودون رؤية علمية. وقد مكنه ذكاؤه الوقاد من فهم السياقات التي وجد فيها مع قدرة  عجيبة على استشراف المستقبل ومقتضياته وهي مقومات الزعامة الحقيقية التي يمتلكها قلة قليلة من الرؤساء في العالم.

وقد أدرك قبل غيره أن هناك أساسيات لابد من تركيزها وهي التعليم والصحة في المقام الأول ثم باقي المرافق للمراهنة على أكبر تحدّ وهو بناء الإنسان الذي يمكن القول إنه محور الفكر البورقيبي وإن تعددت روافد ومحاور هذا الفكر.

هنا قد يقول قائل إننا بصدد «تأليه» هذه الشخصية فنجيب معاذ الله فالزعيم كان بشرا خطّاء مثلنا جميعا وقد سوّلت له نفسه التمسك بالسلطة كأنه لن يفنى أبدا كما استمتع كثيرا بوجود بطانة وحاشية حوله زينت له الكثير من الأفعال ومهدت له طريق الحكم «مدى الحياة» وهو الانزلاق الأخطر الذي جعله ينحرف نحو الاستبداد بالسلطة. وليس هذا فحسب فهناك بطانة سيئة وفاسدة اجتمعت في لحظة ما حول الزعيم وغذّت في نفسه بعض النوازع من بينها الجهويات التي جعلت البلاد تنقسم الى قسمين قسم محظوظ تتركز فيه كل دعائم التنمية والرفاه وقسم مهمّش وخارج دائرة حسابات الدولة وبرامجها. وقد خلق هذا غبنا وضيما في نفوس فئات كثيرة من التونسيين الذي احبّوا الزعيم لكنه خذلهم.

هذا هو الوجه الآخر للعملة حتى نكون منصفين وموضوعيين ونحن نقرأ تاريخنا بهدوء وبعيدا عن تشنج الايديولوجيا أو النزعات الانتقامية التي ولدت في نفوس بعض الذين اضطهدهم نظام بورقيبة من بعض التيارات السياسية.

ويقتضي الأمر الآن ان يتحلى التونسيون بأعلى قدر من التسامح والتصالح مع الذات في المقام الأول ثم مع الوقائع والرموز التاريخية حتى يتسنى لنا ان نستلهم من الإيجابي ونتجاوز الأخطاء والخطايا وننظر الى المستقبل بعقلانية وتبصّر بعيدا عن كل مظاهر التشنج.

ويمكن ان نجعل من البورقيبية مدرسة سياسية بعد ان تُنقّى من كل الشوائب التي التصقت بها. اما المنجز البورقيبي وخاصة في مجال التعليم والصحة فقد تآكل وعلينا ان نعيد الروح فيه من اجل تونس ومستقبل الأجيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

اليوم الـ344 من العدوان على غزة: قصف صهيوني على القطاع و64 شهيدا في 48 ساعة

الصحافة اليوم (وكالات الانباء) واصل جيش الاحتلال الصهيوني قصفه الصاروخي والمدفعي في عديد ا…