عن كلمة الرئيس في عيد الجمهورية : توظيف الرمزيات في لحظة مكاشفة..!
اختار رئيس الجمهورية قيس سعيد ان يعايد التونسيين في ذكرى الجمهورية بكلمة متلفزة ارتأى ان تكون ذات أبعاد رمزية ومن أكثر من حقل دلالي توزعت ما بين التاريخي والديني وبالتأكيد السياسي.
وفي هذه الكلمة أوغل الرئيس في الايحاءات والرمزيات وهو يحاول أن يقول الكثير عن الماضي والأكثر عن الحاضر والمستقبل القريب جدا وفي ثنايا خطابه اعلان عن جمهورية جديدة تستمد من التاريخ أصولها لكنها وفيّة لواقعها بكل التحديات المطروحة فيه.
وقد ارتأى الرئيس قيس سعيد أن يستدعي التاريخ بكامل تفاصيله في ديباجة هذه الكلمة وهو يعلن عن مصادفة تتمثل في انه يتكلم بالتحديد في اللحظة التي نطق فيها رجل الدولة الكبير جلولي فارس وهو يزفّ الى التونسيين ميلاد الجمهورية على أنقاض الملكية الساعة السادسة مساء من يوم الخميس 25 جويلية 1957.
ولأن للتاريخ دوما مصادفات تثير العجب، فقد التقط الرئيس قيس سعيد هذه اللحظة وانطلق منها متحدثا الى التونسيين بعد تهنئتهم وبعد استهلال مثقل بالرموز الدينية التي ينهل منها الرئيس كثيرا كما نعلم جميعا.
وبعيدا عن الاستهلال فقد جاءت فحوى الخطاب أيضا مفعمة بفيض من الاعترافات او لنقل المكاشفة أو المصارحة للشعب التونسي عبر الحديث عن المعاول التي تعمل دون كلل أو ملل من أجل هدم هذا البناء الجمهوري الذي أسسته أجيال متعاقبة من اجل ان تتخذ تونس مكانتها الجديرة بها بين الأمم.
وفي هذا السياق بالذات نأى الرئيس قيس سعيد عما هو متعارف عليه من قبل الفاعلين السياسيين في مثل هذه الأعياد الوطنية حيث يكون الكلام عاما وأقرب الى المجاملات واختار ان يتكلم عن الصعوبات والعراقيل التي وجدها وهو يلج غمار السلطة وهو القادم من أفق اكاديمي وغير متحزب وكشف بعض دهاليز السياسة في بلادنا والممارسات التي تتم بعيدا عن أعين الشعب وانخراط طيف من التونسيين في الإساءة الى بلدهم بأشكال وطرائق مختلفة مباشرة أو غير مباشرة عن عمد وقصدية او عن جهل وتغابٍ وفي كل الحالات الأذى حاصل لا محالة.
وتوغّل الرئيس كثيرا في الرمزية وهو لا يخفي احساسه بالغربة في هذا الواقع السياسي المأزوم الذي لا يشبهه ولا يتقاطع معه في شيء حتى انه بات مثل صالح في ثمود بعبارة الشاعر العربي الكبير أبي الطيب المتنبي.
لكن هذه الغربة يترجمها الرئيس فعلا بكونه ماض في حرب بلا هوادة ولا تراجع ضد «رهط» ممن يسميهم بالمتآمرين والمنكّلين بالشعب التونسي في قوته وأمنه الغذائي والمرتمين في أحضان الأجنبي والراغبين في التموقع والمراهنين على لعبة الأمم من أجل تحقيق مٍآربهم الشخصية، وفي هذا الخطاب أظهر الرئيس كثيرا من الصفات التي من أجلها انتخبه ذاك العدد الكبير من التونسيين في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية 2019 وفي مقدمتها التمايز عن بقية السياسيين.
وباعتبار أننا في سنة انتخابية بل قل على بعد أمتار من استحقاق بالغ الأهمية ينظر اليه التونسيون باهتمام بالغ كما أن أعين الكثير من دوائر القرار في العالم ترقبه بعين متيقظة ، فمن الطبيعي ان تكتسب كلمة الرئيس أبعادا سياسية هامة تتجاوز مجرد المعايدة بعيد الجمهورية وربما لهذا اختار الرئيس ان تأتي كلمته مجلّلة بجلابيب دينية وثقافية وتراثية للفت الانتباه لأهمية بل وخطورة ما نحن مقدمون عليه. فالجمهورية الأولى التي بناها رجال دولة أفذاذ وراهنوا من خلالها على بناء الإنسان التونسي المتأصل في جذوره والمنفتح فكرا وروحا على الآخر قد عرفت الكثير من الصعوبات والتحديات وهي اليوم مثل طائر الفينيق تحتاج ان تلملم شتاتها وتنهض من رمادها مستعيدة مكانتها التاريخية والجيوسياسية وهذا لا يكون إلا بإرادة سياسية فذّة وعقل سياسي مختلف وبشعب يعلي قيمة العلم والعمل ويراهن على العقلانية كمنطلق للبناء في كل المجالات.
التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها
لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد …