أحد أكبر معضلات عالم اليوم هي الحيف اللامتناهي بين الأغنياء والفقراء والسياسات التي تنتهجها الدول الصناعية الكبرى والتي تستبطن فكرا «كولونياليا» يقوم على الهيمنة الاقتصادية والثقافية.
فمع تراكم الأزمات والتحولات الكبرى بات واضحا وربما أكثر من أي وقت مضى أثر هذا الحيف على الشعوب الضعيفة التي أرهقتها «لعبة الأمم» وهي التي تجد نفسها مجرد رقم في معادلات لا تفقه الكثير.
والأكيد ان تسارع الاحداث في السنوات الأخيرة سواء كانت سياسية واقتصادية أو صحية أو بيئية ومناخية أو ثقافية حضارية جعلنا نطرح تساؤلات عميقة طرحت من قبل في مقاربات علمية أكاديمية ولكنها ظلت نخبوية حتى لمسها عموم الناس في واقعهم المعيش وأصبحوا بدورهم يتساءلون ولعلهم يرددون عن غير قصد السؤال الخالد لـ «لينين: ما العمل»؟
ومن الطبيعي ان تأتي الإجابات مختلفة ومتباينة بعضها في شكل مقترحات وأخرى في شكل مبادرات.
وفي هذا السياق يمكن تنزيل مبادرة السيد جيلبار هونغبو المدير العام لمنظمة العمل الدولية بإنشاء ائتلاف عالمي من أجل العدالة الاجتماعية أما مناسبة طرح هذا الموضوع فهي بالتأكيد اللقاء الذي جمع هذا المسؤول الدولي برئيس الجمهورية قيس سعيد والذي أشاد بهذه المبادرة وأكد على أن العالم اليوم في حاجة إلى مثل هذه المبادرات وإلى فكر جديد لرفع التحديات التي تواجهها الإنسانية جمعاء.
والحقيقة ان هذه المبادرة ومراميها البعيدة تتسق تمام الاتساق مع المقاربة التونسية بشأن العلاقة شمال جنوب وبخصوص ملف العدالة الاجتماعية بشكل خاص.
فبلادنا تتطلع الى علاقات سوية مع محيطها الإقليمي وشركائها، علاقات تقوم على الندية والمساواة ومراعاة مصلحة جميع الأطراف واحترام السيادة والخصوصيات المحلية لكل بلد.
وفي الإطار ذاته استعرض رئيس الجمهورية قيس سعيد تاريخ نضالات العمال وبداية ظهور فكرة تأسيس منظمة عمل دولية في أواخر القرن التاسع عشر قبل ان ترى النور فعليا بعد الحرب العالمية الأولى في مؤتمر فارساي اثر تأسيس الأمم المتحدة.
وكان التوقف عند المحطات التاريخية المهمة فرصة للنظر في مسألة الحق في الشغل وضمان حقوق العمال على أساس العدالة وهي من الأفكار المركزية التي تتطلع اليها تونس مثل باقي بلدان العالم
وليس هذا فحسب فقد بين رئيس الجمهورية أن الأمن لا يمكن ان يستتب في أي مجتمع إذا لم تتوفر فرص متكافئة في العمل كما أن السلم الأهلية لا تتحقق إلا مع تحقق إنصاف للجميع وهذا ما يضمن الاستقرار في أي بلد. وهذا ما تتأسس عليه المقاربة التونسية في التعاطي مع المسألة الشغلية بالتحديد وقضايا التنمية والعدالة الاجتماعية إجمالا.
والأكيد ان العدالة هي «مفتاح السر» في العلاقات الدولية اليوم التي تحتاج قطعا الى إعادة النظر في طبيعتها وفي أشكالها خاصة مع التغيير الذي نلمسه عالميا وكأن العالم القديم ينهار أمام أعيننا وهناك عالم جديد يتشكل لكن ملامحه النهائية لم تكتمل بعد وهذا سر المخاض والصراعات التي تنشأ هنا وهناك على وجه البسيطة. وبالتالي فإن المراجعات مهمة جدا فاستبطان الفكر الاستعماري من قبل بعض القوى وتعاملها بتعال وفوقية إزاء المستعمرات القديمة لم يعد مقبولا بل لم يعد ممكنا الآن في ظل ما يحدث.
ولعل «التمرد» الإفريقي إن جازت العبارة على النفوذ الفرنسي التقليدي في القارة السمراء أكبر دليل على ما نقول كما ان صمود المقاومة الفلسطينية وسقوط اسطورة الجيش الذي لا يهزم عنوان آخر دال على أن هناك مياها كثيرة جرت تحت الجسر.
وفي السياق ذاته من الواضح ان ورقة التوت قد سقطت عن الكثير من العواصم كما ان المقولات الخالدة من قبيل الحرية والأخوة والعدالة التي كان يتم التشدق بها وتصدّقها شعوب العالم الثالث أصبحت بلا معنى ولا رمزية بعد ان بات التعاطي معها بالمكيالين في أكثر من حدث وآخرها تعاطي الإعلام الغربي مع طوفان الأقصى وما تلاه من حرب إبادة في غزة على مرأى ومسمع من الجميع.
أما بالنسبة الى مسألة العمل واليد العاملة التي كانت شعوب العالم الثالث تزود بها الدول الغنية وفي ظل أزمة اقتصادية خانقة ومع التضييق الصارم على التنقل عالميا فإنها أصبحت ملفا حارقا ينبغي التفكير في إيجاد الحلول الجدية له خاصة مع تنامي ظاهرة الهجرة غير النظامية التي كانت نتاجا لتفاقم الفقر والتهميش في بلدان الجنوب والبحث عن فرص حياة كريمة في الضفة الشمالية للمتوسط.
ومعلوم ان حدة الفقر والبطالة والأمية وتداعيات التغيرات المناخية وكل القضايا المطروحة في بلدان الجنوب هي نتاج مباشر لسياسات القوى العظمى وبالتالي فهي مدعوة اليوم إلى ان تفكر مليا في الحوار البناء مع بلداننا على أساس العدالة والندية لمجابهة كل هذه الإشكالية المطروحة.
في ذكرى اغتيال الزعيم فرحات حشاد : إن من التاريخ لعبرة..
لأن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار وفي باطنه نظر وتحقيق كما قال العلامة عبد الرحمان ب…