وداعا « طائر الحرّية» الحبيب الجنحاني: الفتى الزيتوني الثائر تحت العمامة
غيّب الموت صباح الأحد 30 جوان 2024 أستاذ التاريخ الوسيط بالجامعة التونسية الحبيب الجنحاني . عبر العصر وحمل أكثر من قبّعة : كان ناشطا في المدينة مهموما بقضايا العصر، وكان من مؤسسي نقابة التعليم العالي واتحاد الكتاب التونسيين واتحاد المؤرخين العرب وعضوا بمنتدى الفكر العربي بعمان والشبكة العربية للمنظمات الأهلية والمجلس العربي للطفولة والتنمية بالقاهرة… كما أشرف على الملحق الثقافي لجريدة العمل وكان يكتب مدفوعا دائما بفكرتي الحرية والحداثة.
لم يكن مسار الحبيب الجنحاني ، “ طائر الحرية” ( عنوان الكتاب التكريمي الذي خصّته به دار سعاد الصباح في 2017) عاديا، فقد هاجر أربع هجرات وكان موجودا في مفاصل هامة من التاريخ، شاهدا على العصر وغليانه، قابضا على أقباسه من مرجل الأفكار الكبرى بمهجة المتشوّف إلى “نهضة قومه.
تكتب الدكتورة سعاد الصباح في مقدمة الكتاب التكريمي “ فهل يسأل سائل عن الحبيب الجنحاني ، وهو الذي نهل من أفكار الأقدمين والمحدثين، وأعاد صياغة بعضها بما يتّسق والعصر الذي يعيش فيه، أو الظرف الذي يحيط!!”. وتضيف قائلة : “ مسيرة هذا الرجل الممتدّة عبر عشرات السنين تشهد له، وتسجّل أنّه لم يكن رقما زائدا في تاريخ بلده، إنّما هو ذلك الرقم الصعب الذي ناصر الانسان في قضيته الجوهرية، بأنّه إنسان، ولاحق العلم منذ نعومة أظفاره في بلاده تونس ثم في تغرّبه الأوروبي..”.
وفي تقديمه لذكرياته كتب الحبيب الجنحاني يقول أنّه اختار أن يتحدّث عن أحداث “ تسهم في توعية القارئ العربي بالقيم التالية :
الثورة ضد جميع مظاهر الظلم السياسي والاجتماعي، التمسك بمبادئ العقلانية والحداثة، وأعني بالحداثة المطلة علينا من عباءة عصر الأنوار، الايمان بالحرية، والنضال في سبيلها حتى آخر رمق..”.
بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية تأخر دخول الحبيب الجنحاني إلى التعليم الابتدائي، فلم يبق له سوى الالتحاق بالتعليم الزيتوني ممّا سيسمح له باكتساب ثقافة كلاسيكية متينة، ومعايشة نضال الزيتونيين في سبيل تحديث نظامهم التربوي قبل إلغائه وتوحيد التعليم غداة الاستقلال. و” كان لهذه المرحلة بعيد المدى في الوعي السياسي للفتى الجنحاني ، وفي اهتمامه بالشأن السياسي وطنيا في البداية، ثمّ عربيّا وعالميّا فيما بعد”.
خطب في الجماهير المتظاهرة أمام مقر الجندرمة الفرنسية بمدينته قليبية في ربيع 1950 واصفا مصطفى الكعاك بالعمالة ولم يتجاوز سنّه السادسة عشرة، وتمّ اتهامه بثلب الوزير الأكبر. وقد دفعه الشعور بتخلف التعليم الزيتوني إلى التردّد على الخلدونية لمتابعة دروس الفاضل بن عاشور.
وكانت علاقته بهذه البيئة التراثية قد فتحت له أبواب التخصص في المخطوطات وفن المكتبات والعمل بها مما رشّحه لبعثة فنية تدريبية إلى المكتبة الوطنية ودار الوثائق الوطنية بباريس، ثم القاهرة.
هاجر الحبيب الجنحاني أربع هجرات: الهجرة الأولى إلى باريس: “ كان الانبهار كبيرا والصدمة الحضارية عنيفة، إذ انتقل الفتى بين عشية وضحاها من قلب مدينة عربية اسلامية بأسواقها التي هي امتداد لأسواق المدينة العربية في العصر الوسيط…إلى مدينة النور بباريس، وسرعان ما نسي المساجد وحلقات القراء لتعوضها مقاهي الحي اللاتيني نهارا ونوادي موسيقى الجاز بكهوف الحي الباريسي الشهير سان جرمان الذي ما تزال تفوح منه روائح الوجودية”. وفي باريس سيكتشف الفتى الزيتوني أنّه كان “ ثائرا تحت العمامة”.
ثم كانت هجرته الثانية نحو القاهرة في إطار بعثة تدريبية إلى دار الكتب ومعهد المخطوطات بالجامعة العربية، ليقترب هناك من اليسار المصري ومن الحياة الثقافية. وكان لهذه الهجرة أثرها في اهتمامه بالقضايا العربية متجاوزا القطرية الضيّقة.
وستكون هجرته الثالثة إلى برلين، هي الأخطر كما يقول لأنّها سمحت له أن يتعرّف على عالم جديد مختلف تماما. وهناك سيعيش ثماني سنوات ( 1957 ⁄1965 ) متنقّلا بين واجهتي النظامين الاشتراكي والليبرالي. يتقن اللغة الألمانية ويدرس بجامعة لا بيتزيج بمعهدها الاستشراقي، ويعلّم العربية لمستشرقيها. وينفتح على الثقافة الألمانية ويحضر لمسرحيات برشت. ويعمل بالقسم العربي لإذاعة برلين.
عاد بعدها إلى تونس، في أوج تجربة الاشتراكية الدستورية. رأس تحرير ملحق “ أدب وثقافة” لجريدة العمل ( 1965 − 1966) ونشر بها سلسلة من المقالات بعنوان “ ليس بالخبز وحده يعيش الانسان” كشف فيها عن حركة المثقفين المنشقين في الاتحاد السوفياتي ومطالبتهم بالحرية.
ويبدأ بعدها هجرته الرابعة التي ستقوده في خريف 1966 إلى ألمانيا مجدّدا، حيث تمّ تعيينه أستاذا بمعهد تاريخ وحضارة شمال افريقيا بجامعة “ قيزن” ، مع التدريس بالتوازي بجامعة “ ماربورغ”.
ثم عاد إلى الوطن. وشعر أنه عليه الانسحاب من النشاط السياسي في الحزب الحاكم خصوصا بعد المحاكمات الطلابية وسقوط التجربة الاشتراكية. يكتب في جريدة الرأي المعارضة ويمارس العمل النقابي ولم يحترف السياسة ممّا سيسمح له بالمحافظة على هامش من الحرية والاصداع بآرائه النقدية.
يقول الحبيب الجنحاني: “ لمّا سقط المشروع الوطني في المجالين التنموي والسياسي، وتلبّدت الغيوم في أفق المشروع العروبي القومي، وتبوأ الصدارة في الوطن العربي زبانية السياسة، وسماسرة الاقتصاد اتضحت أهمية نشر الفكر الحداثي العقلاني، والتصدي لمظاهر الردّة والرداءة التي بدأت تغزو الفضاء العربي ابتداء من ثمانيات القرن الماضي، فحاولت أن أسهم اسهاما متواضعا في نشر قيم هذا الفكر عبر منبرين مؤثرين: منبر الندوات السياسية والفكرية العربية، ومنبر الاعلام فكتبت في الزمان والحياة وفي الزمان الجديد ومجلة العربي…”.
يقول عنه الأستاذ لطفي عيسى : “ قد بقي وفيّا، وبعد رحلة طويلة لازلت تحفل بنتائج أيامه وأعماله وتكشف عن كفاءته النادرة في استيعاب تشعّبات عصر ما بعد الحداثة، لزخم المدرسة الإصلاحية الحداثية، مستلهما في جميع ذلك مقولة مأثورة وردت ضمن فاتحة آثار من تصدّر وبُعيد سنوات المراهقة الأولى لتقديم عصارة أعماله لقراء الصحف اليومية تونسيا عند أواسط خمسينات القرن العشرين ونقصد المفكر الأزهري “خالد محمد خالد” (1920 – 1996) : “الإسلام لم يأت ليعلمنا أخلاق الصوامع… بل ليعلمنا أخلاق المدينة”.
في مكتبة «الصحافة اليوم»: كتاب tunisiables نبش في أحوال التونسي وتقلباته لشكري الباصومي : حياتنا فقيرة قيميّا وحضاريّا وثقافيّا
في الصفحة 11 من كتابه “ tunisiables نبش في أحوال التونسي وتقلّباته” الصادر حديثا عن دار …