توجه الفرنسيون يمينا بل الى اقصى اليمين وهم يصوّتون في الانتخابات التشريعية في دورها الأول يوم 1 جويلية الجاري. وهذا بمثابة حدث تاريخي سيخلق منعرجا في الحياة السياسية الفرنسية وأيضا في مستوى علاقات هذا البلد مع محيطه الأوروبي وباقي البلدان التي تربطها به شراكات وتعاون وخاصة قارتنا الافريقية وتونس بالتحديد.
إذن باحت صناديق الاقتراع بأسرارها وجاءت «الرجّة» بعبارة الفرنسي بول ريكور من عاصمة الأنوار التي اختارت اليمين المتطرف ليتصدر نتائج الدور الأول في الانتخابات التشريعية في زلزال سياسي له ما بعده.
فقد حقق حزب التجمع الوطني وهو اليميني المتطرف نتيجة تاريخية حصد من خلالها نسبة 33,15 بالمائة من أصوات الناخبين وتصدر بذلك نتائج الدورة الاولى للانتخابات التشريعية في فرنسا وذلك وفق النتيجة النهائية التي أعلنتها وزارة الداخلية الفرنسية في الليلة الفاصلة بين الاحد 30 جوان والإثنين 1 جويلية.
وجاء اليسار في المرتبة الثانية من خلال الجبهة الشعبية الجديدة التي حصدت 27,99 بالمائة من الأصوات. في حين تقهقر «معسكر» الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى المرتبة الثالثة ولم يحصد سوى 20 بالمائة من أصوات الناخبين.
وانقسمت باقي النسب الضعيفة بين باقي التيارات والاطياف السياسية الفرنسية.
ومن المنتظر ان يقام الدور الثاني للانتخابات التشريعية الفرنسية يوم الاحد المقبل الموافق لـ7 جويلية الجاري.
وترجح التوقعات واستطلاعات الرأي ان اليمين المتطرف سيحصل على ما بين 230 و280 من جملة مقاعد الجمعية الوطنية الجديدة بعد الجولة الثانية من الانتخابات.
وتجدر الإشارة هنا إلى ان الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية تقتضي الفوز بعدد 289 مقعد.
وهذا يدل بشكل جلي على ان فرنسا تدخل مرحلة جديدة من تاريخها السياسي المعاصر يتبوّأ فيها اليمين المتطرف مكانة تاريخية لم يحلم بها وذلك بسبب الأداء السياسي المرتبك لرئيس الجمهورية الفرنسية ايمانويل ماكرون القادم من افق سياسي غير تقليدي في السياسة الفرنسية.
ويمكن تفسير هذه النتيجة أيضا بسبب سوء الأحوال في بلد الأنوار والتقهقر العام الذي شهدته فرنسا طيلة مرحلة حكم ماكرون وهو ما قاد الى توترات اجتماعية واحتجاجات بالجملة. بالإضافة الى انهيار الدور التاريخي لفرنسا في مناطق نفوذها التقليدية وفي مقدمتها القارة الافريقية. والفشل الذريع الذي اظهره النظام الفرنسي سواء في حوكمته لبعض القضايا الداخلية او مواقفه مما يحدث في العالم.
وهنا من المهم ان نتوقع دوافع تصويت الفرنسيين على هذه الشاكلة كما أوردتها وسائل الاعلام الفرنسية والتي جاءت في مقدمتها مسألة القدرة الشرائية وتلتها الهجرة ثم النظام الصحي فالأمن.
وهذا يدل على ان هناك قلقا كبيرا يعيشه الفرنسيون إزاء قضايا المعيش اليومي عجز ماكرون بحكومته على ان يخفف منها وان التحولات الكبرى التي تعصف بالعالم لم ينجح العقل السياسي الفرنسي في فك شيفرتها والتعامل معها بحكمة ونجاعة. ولعل الملف الاوكراني الحارق في القارة العجوز اليوم خير دليل على ما نقول.
وليس الملف الفلسطيني بكل تداعياته الأخلاقية والإنسانية والسياسية ببعيد كذلك عن العناوين الدالة على هذا الفشل الذريع.
وما دمنا بصدد مقاربة دوافع التصويت فالأكيد ان دافع الهجرة الذي جاء في المرتبة الثانية بعد المقدرة الشرائية يستوقفنا ويجرنا الى استقرائه خاصة في علاقة ببلادنا المعنية بشكل مباشر بهذا الأمر.
فإذا قدّر لليمين المتطرف ان يصل الى السلطة وان يحكم في ظل الجمهورية الخامسة في بلد الانوار ـ وهي فرضية باتت قاب قوسين أو أدنى ـ فإن هذا التحول ستكون له تداعيات كبرى على الداخل الفرنسي قطعا ولكن ايضا على العلاقات الخارجية لباريس.
وقطعا يواجه الفرنسيون «انسدادا مؤسسيا» كما اسمته بعض الصحف العالمية إذا ما استحوذ اليمين المتطرف على الجمعية الوطنية والحكومة ووجد الرئيس الفرنسي نفسه في عزلة تطبق عليه من كل الجهات. وربما لهذا وصفت كذلك بعض وسائل الإعلام الحدث السياسي الفرنسي بأنه «مأساة».
والحتمي ان التداعيات ستكون كبيرة على شركاء فرنسا واصدقائها فالتوجه يمينا يقتضي تغيير طبيعة العلاقات البينية مع هذا البلد أو ذاك ويؤشر لتحول في مستوى التعاطي مع بعض الملفات وفي مقدمتها ملف الهجرة عموما والهجرة السرية على وجه الخصوص. لاسيما وانها شكلت صداعا مزمنا لكل بلدان القارة العجوز.
وقد انبرت إيطاليا بقيادة رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني لمواجهة هذا الملف بكل ما اوتيت من قوة وسعت الى تفكيكه عبر توطيد العلاقات مع بلدان جنوب المتوسط وفي مقدمتها بلادنا سعيا الى تحجيم هذه الهجرة والتقليل من تداعياتها على بلد الاستقبال الأول.
والأكيد ان اليمين الفرنسي المتعطش للسلطة والحالم بها منذ عقود سيتوجه جنوبا أيضا ولن تكون تونس بعيدة عن دائرة اهتمامه في ملف الهجرة لكن بأي أسلوب وبأي طريقة ..؟ فلننتظر وسنرى …
مرفق القضاء حجر الأساس في بناء الدولة ومؤسساتها : ..والعدل أساس العمران..
هل نحتاج الى استحضار مقولة علاّمتنا الكبير عبد الرحمان بن خلدون: «العدل أساس العمران» للت…