يشهد العالم اليوم تبدلات كبرى مفتوحة على كل المجالات ولا شيء يُستَثْنَى ضمن هذه «السياقات المتحركة» وهي تتسرب كالرمل بحيث نرى «التبدّل» ولا نرى «الحركة» التي صنعته.. نحن ـ هنا ـ كذاك الذي يدخل بيوت الناس خلسة ولا أحد يراه.. لكن الجميع يدرك أنه ثمّة «أياد» بصدد تبديل شكل البيت رغما عن أهله..
وتونس ـ اليوم ـ تتحرك ضمن هذه «السياقات الكبرى» أو «الحداثات الكبرى» التي تدير العالم بوحشية لا تخفي غرائز الاستحواذ والاستيلاء على الكيانات الهشة حتى وإن كانت هذه الكيانات دولا وطنية ذات سيادة وهذه غرائز استعمارية قديمة لم تتمكن ـ رغم ما تدّعيه من ندم على ما ارتكبته من نهب وتفقير وتقتيل للشعوب والأوطان التي احتلها وخاصة في افريقيا لم تتمكن من تبديل خطابها الاستعلائي والذي يعيد نفسه ـ اليوم ـ باشكال مختلفة بعضها عدواني مباشر وبعضها ضمني يستبطن «الشرّ» دون ان يفصح عنه…
فما الذي يدفع بمسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي «جوزيف بوريل» الى هذا «الاستعداء العشوائي» لتونس في اجتماع مجلس الشؤون الخارجية الاوروبي وليفصح عن قلق الاتحاد الاوروبي من التقارب التونسي مع روسيا والصين وايران والذي وصفه «بالتطور المثير» في العلاقات بين البلدان المشار اليها..!
نحن ـ هنا ـ ازاء تدخل مباشر وغير مسؤول في خيارات الدولة الوطنية.. تدخل لا يخفي نزوعه المتعالي على تونس التي يتوجه اليها بما يشبه «المساءلة» حتى تبرّر أسباب تقاربها مع دول صديقة أو شقيقة عبر الفضاء الأوروبي وهنا يضعنا السيد «جوزيف بوريل» في مواجهة كاملة مع الاتحاد الأوروبي «كسلطة سيادية موحدة» تسعى ـ ولا تخفي ذلك ـ لفرض خياراتها على «السيادة الوطنية» والتي تجد نفسها اليوم أمام اختبار جديد «لفرض الانضباط» وللتحدث بصوت عال «كدولة» كاملة السيادة طاردة لكل تدخل أجنبي في شؤونها وبالتالي «طرد» هذا التدخل الأجنبي من «المجال الوطني» بما يقوي ويعزّز من «وجود» الدولة الوطنية في المجال الدولي وما يفرض التعامل معها بنديّة وباحترام وبما لا يحوّل شؤونها الداخلية أو اختياراتها السياسية بما في ذلك علاقاتها الدولية الى ملف على طاولة المجلس الأوروبي أو الكونغرس الأمريكي..
وخطاب الرئيس قيس سعيد واضح في هذا السياق بل فيه من الجرأة والقوّة التي وضعت تونس موضع النديد لكل دول العالم والرئيس ـ بدوره ـ اختار أن يكون «الخطاب السيادي» خطابا متعاليا وطاردا لكل أشكال التدخل في الشأن الوطني وهو ما أبلغته الديبلوماسية التونسية لكل شركائها الدوليين وما تجلّى بوضوح في البيان الذي أصدرته سفارة تونس ببروكسيل ردّا على تصريحات «جوزيف بوريل» مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي وقد جاء في بيان السفارة التونسية ما يلي:
ـ في تونس تمثل الحكومة تطلعات الشعب بشكل شعبي وتعبّر عن إرادتها السيادية.
ـ تونس تجري علاقاتها مع جميع شركائها بشكل مستقل وتظل ملتزمة باتساق ومكاسب شراكاتها مع الاتحاد الأوروبي وتعمل على ضمان تكييف هذه العلاقة باستمرار مع التحديات والتغيرات الجارية.
ويُختتم البيان بإدانة ذكية «لجوزيف بوريل» بالقول أنّ «تشديد المَعْني ـ أي جوزيف بوريل ـ مدير سابق لمجموعة صناعية هو الآن في نهاية عقد مهني، لن يلطّخ الشراكة التونسية الأوروبية.
وكما هو واضح فإنّ ردّ سفارة تونس ببروكسيل على تصريحات مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية قد جاء متوازنا غير حادّ وغير متوتر ولم يذهب في التصعيد وإنّما أكد بذكاء على أنّ الشراكة التونسية الأوروبية أكبر من أن يفسدها مسؤول في نهاية عقده المهني والاشارة واضحة هنا الى السيد «بوريل» لكن ومع تنويهنا بما جاء في البيان فإنّنا نتحفّظ على النقطة الأولى منه وجاء فيها: «في تونس الحكومة تمثل تطلعات الشعب بشكل شرعي وتعبر عن إرادتها السيادية..» ـ فهنا ـ حديث في غير محلّه عن شرعية الحكومة وهي ليست مثار جدل أو تشكيك وبالتالي كان من الأجدر الاكتفاء بالتذكير باستقلالية القرار الوطني وأنّ تونس ذات سيادة كاملة ولا تتلقى إملاءات أو تعليمات من أيّ كان وبأنّه من حقّها أن توسّع من شراكاتها وفقا لمصالحها مثلها في ذلك مثل كل دول العالم الحرّ.. مع العلم ـ هنا ـ وما لم يدركه مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي أن تونس ليست بصدد التقارب مع روسيا والصين وايران أو بصدد بناء علاقات جديدة مع هذه الدول وإنما هي بصدد توسيع الشراكة معها في مختلف المجالات الحيوية من الصحة الى التعليم الى الثقافة والسياحة والطاقة والفلاحة اضافة الى مشاريع استثمارية كبرى خاصة مع الصين وروسيا… وعليه فإن المسألة ليست مسألة تقارب وإنما هي في علاقة بتوطيد العلاقة وفي تأصيلها حتى تكون لها نتائج فعلية على أرض الواقع وهو ما حدث ـ بالفعل ـ مباشرة بعد عودة الرئيس من الصين ـ مثلا ـ وهي الزيارة التي أزعجت بالفعل أوروبا المتعالية التي لا ترى تونس في غير «حوض المتوسط» الذي تبدّل لونه بفعل الهجرة غير النظامية وهو الملف الذي تتحمّل فيه أوروبا المسؤولية كاملة بسبب سياساتها الأمنية الفاشلة تجاه ملف الهجرة النظامية والذي تحول الى «ملف مقايضة» لابتزاز الجوار على الضفة الجنوبية للمتوسط…
تصريحات «جوزيف بوريل» وتأكيده على «القلق الأوروبي» من التقارب التونسي الروسي ـ الصيني ـ الايراني ـ اضافة إلى عدوانيتها المجانية وتعاليها على اختيارات الدولة التونسية وسيادتها فإنه لا يمكن أخذها بمعزل عمّا يحدث في أوروبا من تبدلات سياسية كبرى وخوف من استحواذ اليمين على السلطة اضافة الى سياسة تخويف الرأي العام الاوروبي من «الأقطاب الكبرى» ـ وهي بصدد التشكل ـ وعلى رأسها الصين وروسيا والتي تعمل على محاصرة أوروبا بحلفاء لها في المتوسط ومن ضفتيه الشمالية والجنوبية…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…