2024-06-19

سياسة الارتقاء الآلي في التعليم الأساسي : من عناوين فشل المنظومة التربوية..!

وجهت الجمعية التونسية للأولياء والتلاميذ رسالة مفتوحة الى رئيس الجمهورية قيس سعيد إيمانا منها باهتمامه الموصول بالشّأن التربوي تدعوه فيها الى التعجيل بالتدخّل لإنقاذ المنظومة التربوية والتعليمية التّونسيّة وخاصة مدرستنا العمومية من حالة الموت السرّيري التي هي عليها اليوم والتي أسْهم فيها جُلّ الّذين أشرفوا على القطاع وذلك على امتداد أكثر من ثلاثة عقود متتالية من الزّمن.

حيث يقول رئيس الجمعية رضا الزهروني في هذه الرسالة أن ما يبعث على الاستغراب أنّ كلّ المؤشّرات ذات الصلة المتعلقة بالموارد البشرية وبعدد المؤسسات التربوية هي دائمة التحسُّن من سنة إلى سنة لتقترب من معدّلات المستويات العالمية حيث مرّ نصيب كل معلّم بالمرحلة الابتدائية من 33.1 تلميذا سنة 1985 الى 16.5 تلميذا سنة 2023 ومرّت كثافة الفصل من 31.3 سنة 1995 الى 24.4 سنة 2023.ومرّ نصيب كل أستاذ بمرحلتي التعليم الاعدادي والثانوي من 23.8 تلميذا سنة 1995 الى 13.7 تلميذا سنة 2023 ومرّت كثافة الفصل من 35.2 سنة 1995 الى 27.6 سنة 2023 . وفي المقابل يتواصل تدهور أداء مدارسنا من سنة الى سنة ليصفها الأستاذ الجامعي كريم بن كحلة منذ فيفري 2014 بانّها مصدر «خسارة لا يمكن تقديرها وإهدار كبير للموارد العامة يتمثُّل في بعثرة المكاسب البشرية وحتى الإنسانية. وهي مكاسب لفائدة شبابنا الذين حُكم عليهم بالعجز المعرفي والإقصاء الاقتصادي والاجتماعي ويُجرُّ بهم إلى منحدر الرّداءة وإلى تعقيداتها بكلّ معانيها. تلك المتعلقة بوهم المعرفة وتفوُّق الجهل».

ومن البديهي وفق الزهروني أن يصاب بحالة من الهلع كل من يُدقّق في احصائيات وزارة التربية للسّنة الدراسية 2022 – 2023 والتي تتضمن جملة من المؤشرات حول وضعنا التربوي في خطوطه الأساسية خلال الفترة الممتدة من 1984 إلى 2023 ويقفُ على مؤشّرها الخطير المتعلق بعدد المنقطعين عن الدراسة والذين يتجاوز عددهم اليوم أكثر من 4.4 مليون تلميذ – ما يمثل أكثر من ثلث مجتمعنا- وذلك على امتداد الاربعة عقود المتتالية الأخيرة وهم اليوم في سنِّ ما بين 16 و60 سنة أي بمعدل يتجاوز 110 ألف منقطع سنويا.

مُعطيات نجدُ صداها وفق الزهروني في تقرير المعهد الوطني للإحصاء الخاص بالتعداد السّكني لسنة 2014، والذي استخلص في باب الخصائص التربوية الوطنية في الجانب المتعلق بالتمدرس والأمية أنّ 19 % من التونسيين ليس لهم مستوى دراسي أي هم أُميّون، وحوالي 33 % لا يتجاوز مستواهم الدرّاسي الابتدائي، و35 % بلغوا مستوى التعليم الثانوي. في حين تُقدَّرْ نسبة التونسيين الذين تابعوا تعليما عاليا بحوالي 13 بالمائة فقط. ونستخلص بالتالي أنّ أكثر من 52 بالمائة من مكونات مجتمعنا لا يتجاوز مستواهم الدّراسي الابتدائي وذلك في سنة 2014 ومن المنطقي أن يبقى هذا الرقم دائم الارتفاع.

يقول الزهروني،أنه وقع مع بداية التسعينات من القرن الماضي الانتباه إلى الانهيار الخطير لأداء المنظومة التّربوية التونسيّة وخاصة في مستوى مرحلة التعليم الابتدائي حيث تجاوز عدد الراسبين 270 ألف تلميذ خلال السنة الدراسية 1989 – 1990 وتجاوز عدد المنقطعين 95 ألف تلميذ خلال نفس السنة الدّراسية. وتمّ عندها التعامل مع الوضعية بإقرار إصلاحي 1991 ثم 2002 وكانا سببا في ترحيل الاشكال الى مرحلتي التعليم الاعدادي والثانوي بعد الإقرار المبطّن لسياسة الارتقاء الآلي في مستوى التعليم الابتدائي لأهداف معلنة هي بالأساس اجتماعية وامنية. ويؤكد هذا الاختيار قرار التّخلي على اجبارية امتحان اختتام المرحلة الابتدائية (السيزيام) للمرور الى المرحلة الإعدادية.

وإن ساهمت هذه السيّاسات في النّزول شبه الحيني بعدد الراسبين بمجمل المرحلة الابتدائية لتبلغ حدود 70 ألف تلميذ خلال السّنة الدراسيّة 2004 – 2005 (ربع ما كان عليه خلال السنة الدراسية 1989 – 1990 وبعدد المنقطعين إلى حوالي 20 ألف تلميذ خلال نفس السنة الدراسية والذي مثّل 1.7 بالمائة من العدد الجملي للتلاميذ (بعد أن كان في حدود 96 ألف منقطع خلال السنة الدراسية -1989 1990 وهو ما يمثل 7 بالمائة من مجمل عدد التلاميذ) فقد زادت في تدهور أداء مدرستنا العمومية بسبب اقتصارها على ترحيل ظاهرتي الانقطاع المبكر والرسوب إلى مرحلتي التعليم الاعدادي والثانوي بالرّغم من حفاظ معدل نسبها العامة على نفس المستويات. وتم بالتالي تسجيل ارتفاع كبير في مستوى عدد المنقطعين والراسبين بهاتين المرحلتين بسبب ارتفاع عدد التلاميذ الوافدين عليها.

ناهيك ان عدد المنقطعين عن الدراسة تجاوز 147 ألف تلميذ خلال السنة الدراسية 2005-2004 (حوالي 20 ألف منقطع خلال مرحلة التعليم الابتدائي وحوالي 62.8 ألف منقطع خلال مرحلة التعليم الاعدادي وأكثر من 64.6 ألف منقطع خلال مرحلة التعليم الثانوي) بسبب سياسة الارتقاء الآلي الّتي تم اعتمادها بالإضافة إلى جملة من الخيارات الأخرى غير الصائبة التي تم اعتمادها مثل التخلي عن مسار التكوين المهني ضمن مرحلة التعليم الثانوي واعتماد نظام التعليم الأساسي وتعريب المواد العلمية في المرحلة الإعدادية.

اختيارات ساهمت في تنامي عديد الظواهر السلبية مثل الدّروس الخصوصيّة والعنف والغش والاقصاء والأمية وفي تعميق الهوة في مستوى نتائج الامتحانات الوطنية وفي تراجع خطير لمؤشر التمدرس.

يضيف الزهروني، ان جل السّياسات التي تم إقرارها في مجال التربية منذ سنة 1991 ادت إلى اتّساع رقعة الأضرار بسبب تجاهل الأسباب الفعلية لمعضلة المدرسة التونسية والمتمثلة بالأساس في تدهور أداء المرحلة الابتدائية وبسبب اختيار اللّجوء إلى استعمال المسكنات المتمثلة في احتساب المعدل السنوي العام للسنة الرابعة الثانوي بنسبة 25 بالمائة ضمن امتحان الباكالوريا انطلاقا من سنة 2003 وهو اجراء تم التخلي عنه نهائيا بعد باكالوريا 2016 وبسبب تجاهل أهمية استثمار العائلات الميسورة في الدّروس الخصوصية واعتبارها مكاسب فعلية للمدرسة العمومية مقابل الترويج لكونها شكلية وثانوية وظاهرة سلبية يسلكها الاولياء قصد البحث عن بلوغ مستويات تميز لأبنائهم وبناتهم. وتنامت بسبب هذه السّياسات عديد الظواهر السلبية الأخرى إلى جانب الانقطاع المبكر عن الدراسة والدروس الخصوصية كالغش والعنف والاقصاء والامية وانهيار مستوى الامتحانات الوطنية.

خيارات تم السكوت عنها سنوات متتالية وزادت بدورها في تفاقم الوضع وخاصة في ما يتعلق بانهيار مؤشر نسبة التمدرس والذي نزل الى حدود 92 بالمائة هذه السنة بعد ما كان في حدود 98 بالمائة سنة 2012. أي ان 7,8 بالمائة من اطفالنا أي حوالي 16 ألف بنت وولد من مواليد 2017 يفترض أنّ اولياءهم امتنعوا عن تسجيلهم خلال السنة الدراسية الحالية لأسباب مسكوت عنها إلى اليوم وحرموا بالتالي من حقهم في التربية والتعليم وذلك حسب الإحصاء العنقودي لسنة 2023 والذي قام به المعهد الوطني للإحصاء.

الإصلاح التربوي ضرورة مستعجلة وتأهيل المرحلة الابتدائية شرط نجاحها

يؤكد الزهروني،انه علينا جميعا مسؤولين ومربين ومختصين وأولياء ومجتمع مدني الإقرار بان السّبب الرئيسي لانقطاع العدد الهائل من أبنائنا وبناتنا عن الدراسة وما نتج عنه من ظواهر سلبية جانبية ومن خسارة لا يمكن تقديرها يتمثّل في فقدان التلاميذ كلّ أمل في النّجاح المدرسي وذلك لعدم بلوغهم المستوى المطلوب في حذق القراءة والكتابة والحساب والفهم لكلّ لغات التدريس وخاصة العربية والفرنسية. وهو إشكال نجد صداه أيضا في هجرة شُعب الباكالوريا العلميّة وخاصة شُعبة الرياضيات.

تجدر الإشارة إلى أنّ كلّ الأنظمة وحتّى المتميزة منها تُقرّ بعلاقة التمكُّن من القراءة والكتابة والحساب خلال المراحل الأولى من الدّراسة مع ضمان تحقيق النجاح والتفوق ويلقى هذا الموضوع اهتماما متواصلا من الباحثين والمختصين في مجالي التربية والعلوم العصبية.

فلا معنى لآليات ترفع من أداء منظومتنا التربوية وفق الزهروني سواء في مستوى إدماج التقنيات والتكنولوجيات الحديثة أوتنويع الاختصاصات أو النهوض بمسارات التكوين بمختلف مستوياتها إلاّ تضمن المرحلة الابتدائية قدرا كافيا من حذق اللغات قراءة وكتابة وفهما مع حذق الحساب. والنهوض بعقلية المواطن والارتقاء بها إلى مستوى الوعي بما له من حقوق وما عليه من واجبات في كلّ مجالات الحياة ليكون رجل المستقبل أو لتكون امرأة المستقبل يتطلب أيضا حدّا أدنى من حذق القراءة والكتابة والحساب.

وتؤكد الدّراسات ذات الصلة ان استثمار دينار واحد في الأعمار الصغرى وفي مرحلة التعليم الابتدائي يضمن لنا اقتصاد ما بين 6 و17 دينارا حسب دراسات قامت بها عديد المنظمات المهتمة بالشأن التربوي ومختصين في الاقتصاد أمثالJames Heckman وDimtri Masterov وهو متحصّل على جائزة نوبل في الاقتصاد لسنة 2007. وهو اقتصاد يتمثل في تفادي الخسارة المتأتية من كُلفة الانقطاع المبكّر عن الدراسة ثمّ من كلفة الرّسوب ومقاومة الانحراف والبطالة والفقر والاقصاء.

يؤكد الزهروني، أن أغلبية الحلول متوفرة وقابلة للتنفيذ في عديد المجالات والمستويات وبالأساس سياسية وقانونية وتنظيمية وتربوية وبيداغوجية واستشرافية ومالية وفيها المستعجل ومتوسّط المدى وطويل المدى وتهم العديد من الأطراف والاختصاصات دراسة وصياغة وتنفيذا. ويعتقد من وجهة نظره في جدوى الإسراع بتفعيل المجلس الأعلى للتربية والتعليم وتكليفه بمهمة دراسة هذه الحلول والسّهر على حسن تجسيمها إذا ما أردنا بالفعل مأسسة عملية الإصلاح والنّجاح في تنفيذها وإذا ما أردنا ضمان ديمومة جودة أداء المنظومة من خلال ضبط السياسات والاستراتيجيات والمخططات التي تأخذ بعين الاعتبار تطور الحاجيات والمهن والاختصاصات ذات القيمة المضافة المؤكدة في مستوى قابلية التشغيل المحلي وتصدير الكفاءات والمساهمة في خلق الثروات وهو ما يتطلب تشريك عديد الأطراف والاختصاصات ومن ضمنهم الاولياء. فالشأن التربوي شأنُ وطن ومجتمع.

ومن المؤكد انّ التعهّد بتحقيق هدفين محوريين خلال الخماسية القادمة ويتمثل الأول على حد تعبيره في إعادة نسب التمدرس كما كانت عليه في سنة 2012 ويتمثل الثاني في النزول بعدد المنقطعين عن الدراسة بـ 50 بالمائة مقارنة بما هو عليه اليوم سيكون بوصلة ثابتة للقيام بعملية الإصلاح على الوجه المطلوب في مختلف مراحلها. وسيضمن هذا التوجه معالجة نسب كبيرة لأخطر الظواهر السلبية والتي تعاني منها اليوم منظومتنا التربوية ومدرستنا العمومية وخاصة منها المتعلق بالعنف المدرسي والدروس الخصوصية وتعمّق الفوارق الاجتماعية. ويتطلّب النجاح في تحقيق هذين الهدفين ضرورة الانطلاق الفوري في تأهيل المرحلتين التحضيرية والابتدائية الضامنتين للبناء السليم لكامل هرم التربية والتعليم والتكوين.

في الختام نأمل أن تكون جملة الاجراءات الاصلاحية التي أعلنت عنها وزيرة التربية سلوى العباسي بادرة إيجابية ومسارا حقيقيا نحو إنقاذ ما يمكن إنقاذه في المنظومة التربوية والبناء على أسس صحيحة غير قابلة للتهرؤ أو مهدّدة بالسقوط..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

بسبب تراجع  أداء المؤسسة التربوية العمومية : المعاهد والإعداديات النّموذجيّة تبقى الهاجس الأكبر  ..!

انطلقت أمس الجمعة  عملية الإعلان عن نتائج «السيزيام»عبر الإرساليات القصيرة ، وتزيّنت مواقع…