في الشأن التربوي التوجيه الجامعي : مفتاح الأمل لمستقبل الناشئة، لم يعد يستجيب لتطلعاتهم ويحتاج إلى تقييم وتطوير
أغلق التلاميذ الذين اجتازوا امتحان الباكالوريا وعائلاتهم ملف الامتحان وصعوباته في انتظار نتائجه. ويستعدون لفتح ملف جديد شائك يختمون به التعليم المدرسي بصفته المنفذ الوحيد نحو التعليم الجامعي ، هو ملف التوجيه الجامعي .
وإذ ينتظر الناجحون أن يفتح لهم التوجيه الجامعي أبواب الأمل في المستقبل عندما يحقق لهم رغباتهم، نجدهم متخوفين من غلق ذلك الباب عندما يكتشفون أنهم لم يستطيعوا تحقيق مشاريعهم الدراسية والمهنية التي هي أملهم في الحياة رغم نجاحهم في الباكالوريا . ولمعرفة الأسباب والطريق لتطوير منظومة التوجيه الجامعي حتى تنجح في تحقيق رغبات كل الناجحين ، أليس علينا تقييم المنظومة وفق معايير جديدة تحقق آمال الناشئة ؟
مقاربة التوجيه الجامعي التونسية
تعرف وزارة التعليم العالي والبحث العلمي – في موقعها الالكتروني حول التوجيه – عملية التوجيه الجامعي بأنها مناظرة يتنافس فيها كل الناجحين على عدد من المقاعد في كل شعبة متوفرة . وعلى أساس التنافس المشار إليه، وعلى أساس أنها مناظرة ، فإن التوجيه الجامعي يشتغل وفق مبدإ التفوق . فيتم ترتيب الناجحين حسب ذلك المبدإ كما جاء أيضا في ذات الموقع. وهذا يعني « أن الأعلى ترتيبا من حيث مجموع النقاط يتحصل على تعيين في شعبة من اختياره قبل المترشح الأقل ترتيبا منه». ولمزيد ترسيخ المبادئ الثلاثة وتدقيق أسس المناظرة ، التي تعمل وفقها منظومة التوجيه الجامعي ، وهي المناظرة والمنافسة والتفوق ، توظف المنظومة عدة معايير لترتيب المترشحين هي مجموع نقاط المترشح، وترتيبه ضمن مجموعته، وترتيبه التفاضلي للشعب الجامعية التي يختارها، والتنفيل الجغرافي، وكذلك ترتيب المترشح ضمن طالبي الشعبة التي اختارها حسب مجموع النقاط ، وربط كل ذلك بطاقة الاستيعاب في كل شعبة ضمن عروض التكوين المتوفرة في دليل التوجيه وبالاضافة إلى ذلك تتولى منظومة التوجيه الجامعي توزيع المترشحين للشعب الجامعية على ثلاث دورات: الأولى للمتفوقين، والثانية هي الدورة الرئيسية، والثالثة هي الدورة النهائية، دون أن ننسى الشعب التي تتطلب اختبارات ولها مجال لوحدها .
إن كل تلك المعايير وإن تم اختيارها حرصا على « توفير مقعد لكل متحصل على الباكالوريا» مهما كانت نتائجه كما تقول وزارة التعليم العالي، إلا أنها في الواقع هي قيود تمنع المترشح العادي من تحقيق رغباته الفعلية بينما تحقق رغبات المتفوقين. وعندما يتحصل المترشح على بطاقة الاختيارات فهو مطالب باختيار 10 شعب وينصح باختيار 6 على الأقل والسؤال هل من إنسان في هذه الحياة قادر على بناء مشروعه المهني الحياتي وفق 5 أو 6 رغبات ؟ في الواقع يجيبنا على ذلك علم النفس بأن المشروع المهني الشخصي للمراهق لا يمكن أن يبنى على أكثر من 3 خيارات بشرط أن تكون متشابهة أو متقاربة من حيث النوعية والاختصاص . لذلك من يختار أكثر من ذلك في الدورة الرئيسية أو الدورة النهائية للتوجيه فعادة ما يقع في اختصاصات لا تتلاءم مع رغباته الشخصية الفعلية وبالتالي قد يكون معرضا للفشل في التعليم الجامعي . ورغم أن إحصائيات وزارة التعليم العالي تؤكد أن نسبة المتحصلين على اختياراتهم والذين تم توجيههم في دورة 2023 بلغ 91 % من المترشحين عموما وأن 30 % منهم تحصلوا على الاختيار الأول و 67.5 % تحصلوا على إحدى الاختيارات الأربعة الأولى ، فإن السؤال يبقى مطروحا وهو ما هي نوعية الشعب التي تتوفر للمترشحين في الدورة الرئيسية بعد أن استأثر المتفوقون بأهم الشعب المطروحة في عروض التكوين . أما بخصوص علاقة التوجيه الجامعي بسوق الشغل فرغم بعض التغييرات في عروض التكوين في التعليم العالي بإحداث مسارات جديدة أو حذف مسارات لم تعد لها آفاق تشغيلية، فإن منظومة التوجيه الجامعي لم تساعد على التقليص من بطالة أصحاب الشهادات العليا التي تزيد قليلا عن 23 % من نسبة العاطلين عن العمل. كما أنها لم تصل إلى حل جذري لمسألة الوظائف الشاغرة في سوق الشغل والتي لم تجد خريجين يشغلونها كما أوضح ذلك التقرير الوطني حول التشغيل 2019 . لذلك من الضروري تقييم مقاربة التوجيه الجامعي الحالية عموما والبحث عن حلول لتطويرها .
تقييم مقاربة التوجيه الجامعي قصد تطويرها
إن ما نصبو إليه هو تغيير مقاربة التوجيه الجامعي من منظومة مغلقة إلى منظومة مفتوحة تتعامل مع كل الناجحين في الباكالوريا متفوقين كانوا أم لا بنفس الطريقة. وتفتح المجال أمام الناجحين لتحقيق رغباتهم وآمالهم في حياتهم المستقبلية دون شروط تمنعهم من ذلك. مع توفير مسالك دراسية لشعب مميزة ودقيقة ذات آفاق تشغيلية عالية في المناطق الداخلية كما في المناطق الأخرى . وقد يتساءل البعض حول طريقة الحسم في الأمر فنجيبهم بأن بعض المنظومات صنفت جامعاتها التي تدرس نفس الاختصاصات وفتحتها للجميع دون استثناء بشرط الحصول على الباكالوريا طبعا. وفرضت منظومات توجيه أخرى مراحل تحضيرية في كل الاختصاصات التي يختارها المترشح بحرية ومسؤولية ومن ينجح يستطيع المواصلة في ذلك الاختصاص وبإمكاننا في تونس التفكير في مقاربة خاصة بنا . أما بالنسبة الى مراعاة تشغيلية الخريجين فمن الضروري دراسة متطلبات سوق الشغل والعمل في ضوء التطورات التكنولوجية وفق مقاربتين تتمثل الأولى في توفير اختصاصات تستجيب لمتطلبات سوق الشغل المحلية وتغطي الشغورات فيها، أما الثانية فتركز على الاختصاصات الجديدة والدقيقة المرتبطة بالمهن الجديدة وذات العلاقة بالذكاء الاصطناعي وبمجال صناعة الروبوتات أو بالطاقات البديلة وبما يتعلق بالمناخ وحماية البيئة ومعالجة النفايات وغيرها . ويتم فرضها في سوق الشغل لتكون لها حصتها وذلك بتنظيم تربصات ميدانية للطلبة في المؤسسات المعنية بالتجديد خلال كل مراحل الدراسة الجامعية مما يسهل انتدابهم في الاختصاصات الجديدة .
إن مثل هذا التطوير وغيره سيبني علاقة جديدة بين الناجحين في الباكالوريا وبين منظومة التوجيه من جهة وبينهم وبين مختلف مسالك التكوين الجامعي من جهة ثانية .
في الشأن التربوي : تربية الناشئة على المهارات أحد تحدّيات المدرسة
من بين التحديات الحياتية التي تواجه المجتمع الإنساني اليوم، والتي على المدرسة رفعها في كل…