في الشأن التربوي : احتفال التلاميذ بإتلاف الكتب المدرسية والكراسات في نهاية السنة الدراسية : ســـلـــوك لـــه دلالاتـــــه
يتفاجأ المتابعون للشأن التربوي آخر السنة الدراسية بالتجاء التلاميذ إلى تقطيع كراساتهم وكتبهم المدرسية آخر يوم في الدراسة احتفالا بنهاية السنة الدراسية . ويعود هذا السلوك من جديد إلى الواجهة بعد أن تضاءل إلى حد ما في السنوات الماضية واختفت معه ظاهرة التراشق بالبيض كذلك . ولعلها عدوى لما يحدث في عدة دول بنفس الشاكلة. وإذ تدعونا الظاهرة إلى ضرورة تناولها بالتحليل فإننا مقتنعون أن هذا السلوك له أسبابه ودلالاته التي وجب الوقوف عندها وربطها بمرجعياتها النفسية والاجتماعية والتربوية بهدف الوصول إلى حلول تمنع تكرار الظاهرة مستقبلا .
لقد لفت انتباهي فيديو انتشر على الفايسبوك ويظهر فيه تلاميذ أطفال وهم يتلفون كتبهم وكراساتهم أمام مدرستهم ويرددون بصوت عال شعارا ضد المدرسة والدروس الخصوصية « الأوتيد كما يقولون» . ورغم أن هذا السلوك غير الحضاري استفزني ، كما أعتقد أنه استفز كل غيور عن المدرسة، وكل مقتنع بعبارة « الكتاب خير جليس» ، وكل من يحترم كرامة الكتاب عموما والمدرسي خصوصا ، إلا أنه من واجبنا أن نكشف عن أسبابه النفسية والاجتماعية والثقافية والتربوية .. حتى لا يزيد انتشار الظاهرة التي يبدو أنها ما تزال محدودة .
يعتبر الباحثون في علم النفس أن ما يصدر عن الطفل أو المراهق من سلوكات طريقة في التعبير عما يجول بنفسه أو عن موقف معين وذلك يختلف من شخص إلى آخر . لذلك فإن عملية الاحتفال بنهاية السنة الدراسية من خلال إتلاف الكتب والكراسات رغم بشاعتها ، تعتبر نوعا من أنواع التعبير لدى عديد التلاميذ وإن كان عدد هام منهم يقوم بها إما تشبها بما يقوم به غيره في مدارس أخرى أو في دول أخرى عربية خاصة ، أو تقليدا أعمى لما تقوم به مجموعة التلاميذ الأتراب التي ينتمي إليها دون وعي بسلبية هذا السلوك .
ورغم ما يبدو ظاهريا للعموم أن ما يصدر عن التلاميذ إنما هو تعبير عن فرحتهم بنهاية الامتحانات والسنة الدراسية واستبشارهم بانطلاق العطلة الصيفية وشعور بالطمأنينة لنهاية الضغط النفسي والتوتر الذي عاشوه فترة الامتحانات ، لكن في الواقع فإن ذلك السلوك مستهجن ومستهتر وملوث للبيئة ومؤذ للمارة . وهو يعبر عن موقف من المدرسة وعنف خفي مسلط ضدها ودليل على عدم احترام هؤلاء التلاميذ للمعرفة ولكرامة الكتاب المدرسي وعدم وعيهم بأهمية المدرسة في حياتهم. فكأنهم بتخلصهم من عبء الكتب والكراسات قد تخلصوا من سلطة المدرسة عليهم.
الأسباب والحلول
رغم أن التقليد سبب مهم من أسباب انتشار الظاهرة كما أشرنا إلى ذلك ، فالملاحظ أنه بالعودة إلى الشعار الذي رفعه التلاميذ في الفيديو موضوع حديثنا ، فإن المقصود بهذا السلوك هي المدرسة ووسائل التعلم كالكتاب والكراس أولا والدروس الخصوصية ثانيا . يقول فيليب بيرينو philippe perrenoud الأستاذ الجامعي في كلية علم النفس وعلوم التربية بجامعة جنيف والباحث في المجال محللا سلوك التلميذ في المدرسة : «علينا أن نضع أنفسنا مكان التلميذ في المدرسة لنكتشف الضغط الكبير الذي تسلطه ماكينة المدرسة عليه ، خاصة وأن التلميذ يؤم المدرسة بطلب من الكهول أي والديه وليس باختيار منه» . إن ذلك الضغط الذي أشار إليه السيد بيرينو هو من أسباب صدور سلوكات غير حضارية أو عنيفة عن بعض التلاميذ، ولا يتغير ذلك حسب الباحث إلا بتطوير المقاربات المدرسية في التعليم والتعلّم والتقييم والحياة المدرسية أو تغييرها بما في ذلك ضغوط الدروس الخصوصية حتى نجعل التلميذ يحب المدرسة .
إن التصرفات التي أشرنا إليها أضف إليها مظاهر العنف المختلفة بالوسط المدرسي وتردي السلوك الحضاري والقيمي بين التلاميذ في المدرسة ومع الأولياء، كل ذلك يفسر بطرق مختلفة، من بينها أن أطفالنا ومراهقينا يعتبرون حسب الدراسات المختصة أن المقاربات التي تشتغل بها المدرسة اليوم والتي يدافع عنها الكهول ويعملون على المحافظة على شكلها لم تعد تستهويهم ، وأنهم لا يشعرون داخل المدرسة بالرفاه المنتظر. كما يعتبر عديد الأطفال والمراهقين حسب نفس الدراسات أن المدرسة اليوم ليست هي الفضاء الذي يحلمون بالدراسة فيه . ومنهم من قال إنه كان يتمنى أن يكون الفضاء المدرسي شبيها بالفضاء العائلي. وانتهت بعض الدراسات الاجتماعية إلى أن بعض الناشئة يعتقدون أن الحياة الحقيقية التي يريدونها اليوم هي خارج المدرسة وليس داخلها. وبينت دراسات أخرى أن طفل اليوم ليس هو طفل الأمس . فهو يرفض مثلا أي قرارات سلطوية من الأسرة أو من المدرسة ويتوق إلى اتخاذ القرارات التي تهم حياته وتلبي حاجياته بنفسه . كما أنه يعيش في مجتمع معرفي تحكمه التغيرات التكنولوجية السريعة . فمعارف اليوم ليست معارف الأمس لأنها تتجدد بوتيرة سريعة تفوق بكثير سرعة تجدد الأجيال الإنسانية كما نعرفها. فما تحصل عليه اليوم من معطيات ومعارف جديدة قد تجده تطور وتغير خلال الأيام الموالية وعوضته معطيات جديدة وهذا ما يمثل ضغطا على المتعلمين وشعورا بالوحدة أمام ذلك التطور خاصة عندما يكتشفون أن الجيل السابق يصعب عليه مدّ يد المساعدة العلمية المعرفية للجيل الجديد عكس ما كنا نعيشه في الماضي . لذلك تأثرت علاقة المتعلمين بالمعرفة المدرسية إلى درجة أنهم أصبحوا يعتقدون « أن المدرسة تمدهم بمعارف لا تستعمل إلا للنجاح في المدرسة» حسب رأي كل من الباحثين، فيليب ميريو philippe perrenoud ومارك غيرو marc guiraud في دراسة لهما حول أسباب العنف في الوسط المدرسي . فكيف نجعل الناشئة يحبون المدرسة ويهتمون بمعارفها وكتبها وكراساتها ؟
دعا الباحثان إلى إعطاء معنى للمعارف التي تدرس بحيث يفهم المتعلمون أنها معارف توحدهم وتجمعهم في مكان مشترك ولا تفرق بينهم رغم الاختلاف. كما أكدا على ضرورة الابتعاد عن تطبيق المقاربة التنافسية في المدرسة فمن رأيهما « أن المدرسة التي تعتمد المنافسة كمبدإ لاشتغالها يتولد فيها الضغط وينتشر التوتر بين التلاميذ بسبب تلاقي مصالحهم المتضاربة وينتهي بهم المطاف إلى إتيان سلوكات عنيفة «. لذلك وجب تدريب التلاميذ أطفالا ومراهقين على ممارسة القيم المجتمعية النبيلة التي توحد كل المواطنين ، وتعويدهم على العيش معا وعلى إدارة النزاعات والأزمات فيما بينهم بالحوار والتشاركية والتعامل مع الغضب بحكمة ورصانة والبعد عن الفردية والأنانية والانطوائية ليجدوا في المدرسة الفضاء الذي يتوقون إلى العيش فيه وفيه يتم حل كل مشاكلهم والإصغاء إلى مشاغلهم ومرافقتهم طوال صعوباتهم.
إن المدرسة مطالبة بمواصلة دورها الثقافي التربوي والاجتماعي الذي به تدعم حب الناشئة للمدرسة من جهة واحترام المدرسة لهم من جهة ثانية . كما تعمل على أن تكون البيئة المدرسية جاذبة لهم ، وتعزز دافعيتهم للتعلم وتبني علاقة احترام بينهم وبين الكتاب المدرسي وتقنعهم بأن المدرسة هي الطريق نحو مستقبل ناجح.وبالتوازي تعمل المنظومة التربوية على تعويض الكتاب الورقي بلوحات إلكترونية لمعالجة الظاهرة . وفي انتظار ذلك يمكن جمع الكتب عبر المدرسة آخر السنة الدراسية ووضعها على ذمة الجمعيات التي بدورها تسلمها للتلاميذ المحتاجين في السنة الموالية . كما يمكن إعادة رسكلة الكتب التالفة من خلال مصانع الرسكلة وتوفير مداخيل للمدرسة .
في الشأن التربوي : تربية الناشئة على المهارات أحد تحدّيات المدرسة
من بين التحديات الحياتية التي تواجه المجتمع الإنساني اليوم، والتي على المدرسة رفعها في كل…