توقفنا أكثر من مرة عند معنى «السيادة الوطنية» والانزياحات الكبرى التي شهدها المفهوم في علاقة «بالدولة الوطنية» ذاتها والتي لم تعد قادرة على تحصين كيانها ما لم تتوفر الشروط الموضوعية لذلك خاصة وأن عبور القارات واختراق «الدول الوطنية» قد أصبح كتمرير أبرة في خيط بفعل ثورة تكنولوجية عارمة كسّرت كل البنى التقليدية والتي تحولت ـ بدورها ـ الى «فكرة هشة» لم يعد يعوّل عليها لحماية «الدولة الوطنية» من كل اختراق خارجي لسياساتها ومن ثمّة لسيادتها»…
فما المخاطر التي تواجهها «السيادة الوطنية» وما الكيانات التي تستهدف هذه السيادة وتستبيحها…؟ ثم ما معنى استباحة «السيادة الوطنية»…؟ كيف يتم ذلك…؟ ومن هي هذه الاطراف أو القوى الخارجية التي تستضعف «السيادة الوطنية»…؟ ثم هل أن «السيادة الوطنية» على هذا الضعف وعلى هذه الهشاشة حتى تخشى أو ترتبك أمام «مواقف عشوائية» من هذه الاطراف أو تلك؟…
أولا لا بدّ من التأكيد ـ هنا ـ على بعض الافكار الاساسية والبديهية في نفس الوقت…«فالسيادة الوطنية» لم تعد سيادة مطلقة ومعزولة عن المجال «السيادي الدولي» والذي تنخرط فيه الدول الوطنية في شكل شراكات وتبادلات اقتصادية وتجارية ومالية تنظمها قوانين واتفاقيات ومواثيق دولية وتونس غير معزولة عن هذا «المجال السيادي الدولي» والذي يضم أيضا الصناديق المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي الذي استباح الدول النامية ذات الاقتصاديات الهشة وتسرّب اليها من خلال تدخله المباشر في سياساتها الوطنية عبر شروط واملاءات مقابل ما يقدمه من قروض ومن هنا تحوّل ما اسميناه «بالمجال السيادي الدولي» من مجال لشراكات اقتصادية وتجارية قيادية الى «كيان سياسي دولي» يسعى للسيطرة أو لنقل لاحتواء «السيادات الوطنية» وهو ما تصدّت له تونس وما رفضته بوضوح «دولة الرئيس» قيس سعيد والذي يؤكد باستمرار على أن «السيادة الوطنية» خط أحمر ولا يمكن المساس بها على الاطلاق وقد حسم الخطاب الرئاسي أمره بقوّة وبجرأة أيضا في مواجهته «لسيادات خارجية» استعلائية تسعى وما تزال للتدخل فيما يمكن ان نسميه «أزمات داخلية» لا أحد ينكرها لكنها تبقى شأنا وطنيا داخليا لا يمكن السماح بتحويله الى «ملف» على طاولة الخارجية الفرنسية مثلا أو الكونغرس الامريكي خاصة اذا ما تعلق الأمر بالحريات وبحقوق الانسان التي نكلت بها فرنسا وكذلك أمريكا في تعاطيهما مع «المظاهرات السلمية» التي قادها الطلبة مؤخرا تنديدا بحرب الابادة التي يخوضها جيش الاحتلال الصهيوني ضد المدنيين في غزة وعليه فإن تونس لا يمكن ان تتلقى «الموعظة» من «مدرسة ماكرون» الذي «صَهْيَنَ» السياسة الخارجية الفرنسية وكذا الموقف الامريكي الذي يدعم ويتبنى الحرب ضدّ الابرياء والعزل من أبناء الشعب الفلسطيني…
وتونس أعلنت ـ منذ البدء ـ «موقفا سياديا» هو الأكثر جرأة والأكثر وضوحا في ادانته للكيان الصهيوني وهو «موقف سيادي» حقيقي دفعت تونس وما تزال ثمنه باهظا وهي «محاصرة» منذ أكثر من سنة وقد ضيّق عليها «الاصدقاء» وخاصة فرنسا وأمريكا الخناق بتحويلها الى «ملف حقوقي» يمكن «تدويره» في كل الاتجاهات وفي كل الاوقات وكم من وفد أوروبي قدِمَ الى تونس ليعبّر عن «قلقه» من وضع الحريات وحقوق الانسان وكم من بيان صدر عن الكونغرس الامريكي وكم من «زيارة تفقد» قامت بها لجان ووفود أوروبية للاطلاع على «وضع الحريات» في تونس والتي لم تتردد في التعامل مع هذه الوفود بما يليق «بسيادتها الوطنية» ونذكر ـ هنا ـ قرار منع وفد عن البرلمان الاوروبي من دخول الأراضي التونسية والذي كان يعتزم «الاطلاع على الوضع السياسي والحقوقي» في تونس من 14 الى 16 سبتمبر من السنة الماضية وهو قرار يعكس «مقاربة الدولة» في تمسكها بسيادتها وبقرارها الوطني الرافض لهذا النزوع «الاستعماري الاستعلائي» المرفوض شعبيا ورسميا…
لقد شهد مفهوم السيادة الوطنية تحولات كبرى نظرية وفعلية وانزاح في أكثر من مفصل من مفاصل التاريخ الكبرى خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وقد اختارت أوروبا مثلا الذهاب الى مجال سيادي أوسع حيث اختارت الانصهار ضمن ما يسمى «بالسيادة المشتركة» ضمن جغرافيا تجمع سياسات اقتصادية ومالية وتجارية ومصرفية موحدة ونحن نتحدث هنا عن «دول الاتحاد الاوروبي» التي اختارت «السيادة المشتركة» بدلا من «السيادات المتشظيّة» التي كانت عليها دول الاتحاد…
ويبقى السؤال في الأخير كيف نحمي السيادة الوطنية أو الدولة الوطنية من كل اختراق أو استهداف خارجي…؟
الاجابة لن تكون إلاّ بالدعوة الى ضرورة تقوية الجبهة الداخلية وهي جبهة مواطنية مدنية تجتمع حول قيم مشتركة ومنها تستمدّ «الدولة ومؤسساتها» قوّة وجودها وصلابة كيانها…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…