كيف يمكن المراهنة على صحافة حرة ومسؤولة بصحفيين يعيشون أوضاعا مهنية واجتماعية هشة ؟ وهل يمكن انتاج مضامين إعلامية جادة وحرفية بوسائل وأدوات عمل وفي ظروف عملية رديئة جدا؟
كيف يمكن صناعة إعلام متجذر في واقعه ومهني وحر بعدد لا يستهان به من الصحفيين الذين لم يتقاضوا اجورهم منذ اشهر في مؤسسات تدّعي أنها إعلامية وتضرب عرض الحائط بكل القوانين؟
ولماذا يصبح الكرونيكور «نجما» وحاصد أموال طائلة مع تهميش واضح وممنهج للصحفيين المهنيين في بعض وسائل الإعلام الجماهيرية الخاصة؟
وأي دور لنقابة الصحفيين في تغيير هذه الأوضاع ورفع لواء تحسين وتطوير بيئة العمل والانشغال بالمهنة الصحفية كـ«صناعة» وكأخلاقيات؟
وماذا عن باقي الهياكل المهنية وبعضها خارج الخدمة منذ فترة؟
نقاط الاستفهام حول ظروف عمل الصحفيين واوضاعهم الاجتماعية تكبر يوما بعد آخر تماما كما تتنامى الأسئلة حول هياكل المهنة والادوار الموكولة اليها في هذه المرحلة بالتحديد.
والحقيقة أن قطاع الصحافة والإعلام يحتاج اليوم وربما أكثر من أي وقت مضى الى وقفة تأمل من قبل أبناء القطاع بالدرجة الأولى من أجل تطوير المهنة الصحفية سواء على مستوى الممارسة أو من خلال المضامين التي يتم إنتاجها او على مستوى التشريعات التي تؤطرها وقبل هذا كله على مستوى ظروف العمل والوضعيات المهنية للصحفيين.
فباستثناء الإعلام العمومي والإعلام المصادر تواجه أغلب المؤسسات الإعلامية صعوبات جمّة مالية ومهنية.
فما يزال بعض الصحافيين يتقاضون أجورا متدنية جدا كما يعمل بعض شباب المهنة الصحفية بنظام القطعة ويتكبدون صعوبات العمل الميداني دون تقدير او تحفيز مادي او حتى معنوي لجهودهم. كما أن أعدادا هائلة من الصحفيين العاملين في بعض المؤسسات الإعلامية الخاصة لا يتقاضون اجورهم بشكل منتظم واحيانا تمر شهور عديدة دون ان ينالوا مليما واحدا وهذه حقيقة موضوعية يتم مع الأسف القفز عليها عند الحديث عن معضلة الإعلام في تونس.
هذا بالإضافة الى غياب الحوافز فهل يعقل مثلا ان تصبح فكرة مشروع سكني للصحفيين مجرد أمنية صعبة المنال بعد ان كان واقعا ملموسا تم توفيره بفضل جهود جمعية الصحفيين في فترة من الفترات واستفاد منها عدد كبير من أبناء المهنة. واليوم هناك أجيال كثيرة تأمل في إمكانية مشروع سكني خاصة مع تهاوي المقدرة الشرائية والارتفاع المشط للمساكن ومعاناة عموم الصحفيين مع أزمة تسوغ المنازل وما يحف بها من ضغط مادي واجتماعي.
اما بالنسبة الى ظروف العمل فمعلوم انها شاقة بكل ما تحمله الكلمة من معان ولا مقارنة بيننا في هذا الصدد وبين باقي زملائنا في بلدان أخرى عربية او اجنبية. فوسائل العمل هناك تطورت بشكل مذهل والرهان اليوم على التكنولوجيا فائقة الذكاء.
وفي سياق متصل علينا الإقرار بأن المضامين الإعلامية التي يتم انتاجها اليوم في تونس تحتاج هي الأخرى الى وقفة تأمل سواء من حيث جودتها «صناعيا» و«حرفيا» او من حيث أداء الفاعلين في هذا القطاع وبعض التجاوزات الكثيرة التي فيها مساس مباشر بأخلاقيات المهنة.
والواضح ان وظيفة رئيس التحرير اليوم في مؤسسات الاعلام الجماهيري بالتحديد من اذاعات وتلفزات أصبحت غائبة مع خضوع تام للمستشهرين ولمالكي هذه المؤسسات الذين لا تهمهم مصلحة الصحفيين المهنيين ولا انتاج مضمون اعلامي مطابق للمواصفات وهذا ما أدى الى انحرافات كثيرة تدفع المهنة وابناءها الجادين ثمنها كل يوم.
والملاحظ ان المصداقية تتراجع لدى عموم التونسيين في إعلام بلدهم.
وفي الأثناء يبدو السجال على اشده حول مسألة حرية التعبير والتي هي شأن مهم بل بالغ الأهمية لكنها قضية لا تهم الصحفيين بمفردهم فالفنان والكاتب والاكاديمي والمفكر كلهم معنيون بها بشكل مباشر كما انها لمصلحة المتلقي بالدرجة الأولى.
غير ان الاهتمام بها والنقاش حولها لا يجعلنا نهمل الدور الاجتماعي للعمل النقابي والرهان على تحسين الأوضاع المهنية والمعيشية والمهنية للصحفيين. فلا يمكن الحديث عن صحافة حرة وناقدة وغير مصطفة في ظل أوضاع هشة تجعل العمل الصحفي في بعض الأحيان ومع كل اسف اقرب الى الارتزاق منه الى صناعة مضامين بأقلام واصوات حرة لا سلطان عليها سوى ضميرها.
اتّساقا مع الرهانات الوطنية والإقليمية والدولية : المضيّ بخطى ثابتة نحو أفق جديد
على الجميع ان يحثّ الخطى في الاتجاه الذي رسمه الشعب لبناء تاريخ جديد … هذه الجملة هي…