من المعلوم ان علاقة تونس بالآخر الغربي متعددة الأبعاد والتقاطعات بين النخب الغربية والفرنسية بالتحديد مع النخبة التونسية عميقة ومتجذرة فمسألة التثاقف قديمة في بلادنا والانفتاح والتبادل الفكري وتنويع الروافد الثقافية كانت مسألة جذرية لدى التونسيين إجمالا.
غير ان هذه العلاقات الثقافية كثيرا ما انزلقت إلى بعض أشكال الوصاية على النخب التونسية وانزاحت عن فكرة التبادل البيني على أساس الندية الى مقولات ثقافة الهيمنة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ولا نستطيع أن ننكر أيضا ان بعض المثقفين والمبدعين التونسيين يعيشون حالة استلاب امام الآخر الغربي استلاب ينطلق من الانبهار المطلق بهذه الثقافة في المستوى الأول ويمر بالتبعية اللامتناهية ليصل الى الولاء وهنا مكمن الخطر.
هنا قد يسأل سائل عن دواعي هذه الديباجة والتي لابد منها لفهم علاقة المد والجزر بيننا وبين الغرب عموما وفرنسا على وجه التحديد باعتبارها مستعمرا قديما والشريك الأول لنا في المسألة الاقتصادية والمهيمن الأول علينا ثقافيا.
والإجابة بسيطة ومعلومة وهي التدخل السافر الذي تبديه السلطات الفرنسية بشكل مباشر او بعض مراكز النفوذ او بعض التنظيمات النخبوية بالإضافة الى الإعلام في الشأن التونسي المحلي الذي لا يعني أحدا سوى التونسيين الذين يحسنون قطعا مهما كانت المعوقات والصعوبات إدارة اختلافاتهم وقد نجحوا اكثر من مرة في تحدي امتحانات بالغة الصعوبة.
هنا تستوقفنا ظاهرة إصرار بعض الدوائر الحقوقية في فرنسا بالتحديد على اعتبار تونس ملفا حقوقيا صرفا والاصرار المجحف على اتباع سياسة الوصاية علينا.
والحقيقة ان هذا «التقليد» موجود في اكثر من مرحلة تاريخية فقد عرفنا مثل هذه الحالات زمن الحكم التسلطي في مرحلة حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي. وكانت المعارضة التونسية تلجأ في بعض الأحيان الى منابر إعلامية في فرنسا او تنظيمات لمساندتها في ظل تعتيم اعلامي داخلي.
وكان كل المتابعين والمهتمين بالشأن التونسي ينقسمون بهذا الخصوص فالبعض يرفض قطعيا اللجوء الى هذه الدوائر مهما كانت التضييقات في حين يراها البعض الاخر ضرورة مرحلية لمجابهة سلطة بن علي.
وتواصل الامر على تلك الحال حتى أسقط التونسيون النظام وباريس تحاول ان تمده بآخر فرص التمسك بالحكم وتمنحه نفسا من الأوكسيجين ليستمسك بالوجود بل لنقل إذا اردنا الدقة منحه كميات من الغاز المسيل للدموع لمجابهة التونسيين الغاضبين في الشوارع.
وانتهت تلك المرحلة بما لها وبما عليها لتتجلى علاقات تونس وفرنسا حقوقيا وثقافيا في أكثر من تمظهر ولكن نزعة الوصاية كانت دائما قائمة.
واليوم تصرّ فرنسا وبعض الدول الغربية الأخرى على اعتبار بلادنا ملفا حقوقيا صرفا مستغلة بعض التوترات الداخلية وبعض الملاحقات القضائية لفاعلين في الشأن العام التي تراها السلطات التونسية محاربة للفساد في كل المجالات وتقول انها بصدد تطبيق القانون على الجميع ولا مساس بالديمقراطية في جوهرها في حين تعلو أصوات المعارضة رافضة لهذا المسار القضائي ومعتبرة إياها مساسا بالحقوق والحريات.
ومن هذا الباب تلج فرنسا الى شؤون تونس الداخلية وتقحم أنفها في المشهد التونسي متجاهلة ان التونسيين لهم القدرة على إدارة خلافاتهم وقد نجحوا في تحديات كبرى.
وتتجاهل فرنسا معطيات مهمة من بينها سقوط القناع عن الكثير من نخبها ومنظماتها وجمعياتها الحقوقية في اكثر من مناسبة.
ولعل الغرب عموما وفرنسا خصوصا لم يعد مسموحا لهم تقديم الدروس لأحد بعد 7 أكتوبر 2023 وبعد ان غمرهم طوفان الأقصى واظهر صمتهم المخزي على انتهاك الحريات وبيّن بما لا يدع مجالا للشك انهم يعتمدون سياسة المكيالين في الحكم على الوقائع والاحداث وان التضامن عندهم مشروط وبالتالي غابت المبدئية وانتهت المعايير الإنسانية في تقييماتهم الى غير رجعة.
ولأنه لم تمض سوى شهور على أدائهم المخزي ولا احد نسي او تغافل عن صمتهم على حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الفلسطينيين فإنه على الفرنسيين ان لا يتوقعوا منا ان نقبل منهم تدخلا او حتى نصيحة او مجرد تفهم منا «لقلقهم» الذين يبدونه من حين لآخر. والأكيد اننا نحن التونسيون مدعوون الى ان ندير خلافاتنا بحكمة وتبصّر وان نراعي المصلحة العليا لبلادنا وقطعا لسنا مستعدين لتلقي دروس من احد خاصة إذا كان يقدم نصائح لا يعمل بها هو شخصيا.
التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها
لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد …