أثار انعقاد القمّة الثلاثية في تونس بدعوة من الرئيس قيس سعيد ردود أفعال مختلفة ومتباينة و«حاصرها» المحللون السياسيون بعدد من الاسئلة والاستنتاجات التي سعت الى «فهم» الطبيعة السياسية لهذه القمّة التي تجمع قيادات البلدان الثلاثة في توقيت عالي التوتر اقليميا ودوليا اضافة الى ما تشهده العلاقات البينية في منطقة المغرب العربي من برود بلغ توتّرات متفاوتة اضافة الى ما تشكله المسألة الامنية من خطورة على المناطق الحدودية بين تونس وليبيا والتي لم تعد آمنة في الواقع وقد تحولت الى هاجس أمني حقيقي بالنسبة إلى تونس وخاصة في مستوى التدفق غير الطبيعي للوافدين من جنوب الصحراء عبر الحدود الليبية…

كل المعطيات الداخلية والخارجية تعطي لهذه القمّة ما يبرّر انعقادها في هذا التوقيت والذي يشهد فيه العالم أكبر أزماته الاقتصادية والامنية بسبب الحروب المشتعلة في منطقة الشرق الاوسط وعلى رأسها الحرب الصهيونية على غزّة زائد الحرب الروسية الأوكرانية والتي شهدت أو هي سرّعت ببروز اقطاب سياسية واقتصادية وعسكرية جديدة في مواجهة مباشرة مع الاتحاد الأوروبي ومن ورائه أمريكا التي ورطت المنطقة في حرب استنزاف غير مباشرة مع روسيا بدأت تُلقي بتداعياتها على اقتصاديات الاتحاد الأوروبي…

نعود الى قمّة تونس الثلاثية وتجمع كلاّ من الرئيس قيس سعيد والجزائري عبد المجيد تبون ورئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي…

بداية وجب التذكير بان القادة الثلاثة كانوا اتفقوا على هامش قمّة الغاز التي انعقدت في مارس الماضي بالجزائر على عقد لقاء مغاربي ثلاثي كل ثلاثة أشهر يكون الأول في تونس وقد وجد هذا المقترح الذي دفعت نحوه الجزائر بقوّة تجاوبا كبيرا من طرف قيادات البلدان الثلاثة خاصة أمام «الشلل» الذي ضرب مفاصل اتحاد المغرب العربي والذي أصبح هيكلا فارغا بلا محتوى وبلا وجود حقيقي على أرض الواقع ما يستدعي تجديده بالكامل لا من «باب إعادة البناء» وإنما من «باب التأسيس الجديد» لهيكل بديل قادر على الاستجابة لطموحات شعوب المنطقة» وهذا من بين المقترحات التي ناقشتها «القمة الثلاثية» في اجتماعها الأول.. والمشروع البديل مفتوح أمام كل دول المنطقة ولا يقصي أحدا كما ذهب الى ذلك عدد من المحللين السياسيين.. وهو ما أشار اليه بوضوح وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف بقوله :«إن المبادرة تهدف الى سدّ فراغ تركه اتحاد المغرب العربي الذي يعاني من شلل تام» وأكده أيضا الرئيس تبون في تصريحه الأخير بالتأكيد على أن هذا التكتل الثلاثي لا يستهدف أي جهة وان «الباب مفتوح أمام جميع دول المنطقة»..

الحديث عن تكتل ثلاثي قد يكون بديلا عن اتحاد المغرب العربي فرضته ـ في الواقع ـ السياقات الاقليمية والدولية وفرضته أيضا الالتباسات الامنية على الحدود بين البلدان الثلاثة كما فرضته المصالح المشتركة بين تونس والجزائر وليبيا والتي تربطها اضافة الى العلاقات التاريخية المواقف الموحدة تجاه الحرب الصهيونية على غزة وهي مواقف تدين بوضوح جرائم الجيش الاسرائيلي وتدعو الى ملاحقته في المحاكم الدولية اضافة الى موقف البلدان الثلاثة الرافض لكل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني وهذا ما يفسر ـ بعمق ـ وبوضوح هذا الحضور الثلاثي المتناغم في مستوى المواقف فمن غير المعقول في هذه الفترة التي يشهد فيها أهالينا في غزة حرب ابادة جماعية ان تمدّ تونس أو الجزائر أو ليبيا أياديها للدول المطبعة مع اسرائيل وبالتالي فإن أي شراكة في المنطقة المغاربية تستدعي أولا «وحدة الموقف» تجاه القضايا الدولية بما يتماشى مع رغبة وارادة شعوب المنطقة وهو ما أشار اليه «البيان الختامي» لاجتماع تونس وهو اجتماع تشاوري واضح المقاصد والاختيارات أولها مقاومة الهجرة غير الشرعية وجرائم الاتجار بالبشر مع العمل على مواجهة الازمات العالمية والتصدي لكل أشكال الابتزاز خاصة في ملف الهجرة مع العمل على حماية الامن الغذائي والطاقي واعلاء مبدأ استقلالية القرار الوطني ورفض كل أشكال التدخل في الشؤون السيادية لكل بلد على حدة مع رفض التدخل ـ أيضا ـ في الشأن الليبي لحفظ وحدتها وسلامتها الترابية…

وقد أكد البيان الختامي على ضرورة وضع مقاربات تشاركية لدفع التنمية الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان الثلاثة اضافة الى عناوين أخرى حددها البيان بدقة (انظر الصفحة 5) وعليه فإنه يمكن اعتبار قمّة تونس الثلاثية «النواة» التأسيسية لهيكل بديل لن يقصي أحدا من بلدان المنطقة شرط ان تكون المواقف موحدة وخاصة في القضايا الدولية الكبرى فالتطبيع ـ كما أشرنا ـ مرفوض سياسيا وشعبيا وبالتالي من غير المتوقع الانفتاح على «الدول المطبّعة»… وكما هو بيّن فإنه ثمّة مسعى «ثلاثي» يدشن مرحلة جديدة تدفع بكل امكانياتها لتقوية التبادلات الاقتصادية والتجارية من أجل رفاهية شعوب المنطقة مع العمل على توحيد المواقف تجاه القضايا الدولية حتى يكون صوت المنطقة قويا ومسموعا في المنتظمات الأممية..

نختم بالتأكيد على أنه لا يمكن موضوعيا القفز على كل المشترك المغاربي تاريخا وجغرافيا وعمقا حضاريا وثقافيا وقمّة تونس الثلاثية لن تكون مطلقا قمة تفرقة ولن يتسرب اليها الرمل «ما دامت العزائم والارادات قوية وعلى وعي بطبيعة المرحلة وعلى ادراك أيضا بعمق التبدّلات في العالم..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…