ما الذي جعل نسبة زيادة المدارس الخاصة ترتفع في تونس بشكل مذهل وصل حدود 488 بالمائة في العشرية المتراوحة ما بين 2010 و2020؟
وما الذي يفسر التنامي الكبير لعدد المنقطعين عن التعليم والذي وصل المعدل اليومي 300 تلميذ يوميا في سنة 2022؟
وماذا ننتظر امام هذه الأرقام الصادمة لمباشرة اصلاح عميق وشامل وجاد لمنظومتنا التربوية التي أثبتت فشلها ولا أمل في تطويرها بالأدوات نفسها التي يتم بها العمل منذ عقود؟
الأكيد اننا لم نتفاجأ ولكن علينا الإقرار بأن الدراسة التي أصدرتها منظمة كونراد أديناور الألمانية في الأيام القليلة الماضية صادمة فعلا وهي التي تتعلق بواقع التعليم في البلاد التونسية والذي انطلقت فيه من تقارير رسمية صادرة عن هياكل تونسية وفي مقدمتها وزارة التربية.
ولأن الأرقام لا تكذب كما يقول أهل الرياضيات فإن المعطيات الرقمية والنتائج الكمية التي توصلت لها هذه الدراسة مفزعة بل هي كارثية بكل المقاييس وتدعونا الى ان نطلق صيحة فزع علّ الصدى يصل الى أولي الأمر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولأنه بالمثال يتضح الحال فإنه لا ضير من ان نستشهد ببعض الأرقام الواردة في هذه الدراسة حتى تتجلى لنا الوضعية في تفاصيلها بالدقة اللازمة.
مع العلم ان هناك 109 الف تلميذ غادروا مقاعد الدراسة سنة 2022. وهو ما يحيل على ان هناك 300 تلميذ كمعدل يومي يتسربون من المدرسة . مع العلم ان عدد التلاميذ الذين انقطعوا عن التعليم منذ 2011 الى اليوم قد تجاوز المليون تلميذ وهو رقم مفزع في مجتمع راهن كثيرا على التعليم كرافعة من رافعات النهوض الاجتماعي وفي بلد رفع تحدي بناء الانسان منذ 1956 وعدد سكانه لا يتجاوز 12 مليون نسمة.
وفي سياق متصل ووفق هذه الدراسة الجديدة الصادرة عن منظمة كونراد أديناور فإن التعليم الخاص تنامى بشكل لافت في تونس واصبح يشكل ظاهرة تستحق الدرس دون التقليل من أهميتها. فقد تضاعف عدد التلاميذ الذين يرتادون هذه المؤسسات التعليمية الخاصة حوالي 6 مرات في الفترة الممتدة ما بين 2010 و2020 وهذا يعني ان الارتفاع تم بنسبة 488. وهذا الرقم يحيل قطعا على ان هناك حالة من الهروب الجماعي من التعليم العمومي الذي اصبح طاردا لأبنائه سواء بالانقطاع المباشر او باللجوء الى التعليم الخاص كملاذ ربما يكون أكثر ثقة وأمانا.
وفي كلتا الحالتين فهناك ظاهرة مرضية تعيشها المنظومة التربوية التونسية وآن أوان علاجها.
ولعل أحد الأسباب الواردة في هذه الدراسة والتي تعد متغيرا مهما لفهم كل الظواهر المتعلقة بفساد المنظومة التربوية هو قطعا ضعف الميزانية المرصودة لوزارة التربية والتي ما فتئت تنخفض من سنة الى أخرى فقد كانت تبلغ حوالي 15.9 بالمائة من الميزانية العامة للدولة عام 2010 فأصبحت حوالي 10 بالمائة في ميزانية 2023. والأكيد ان هذا التراجع في الاعتمادات المرصودة يؤثر بشكل مباشر على البنية التحتية للمؤسسات التربوية وعلى صيانتها وعلى تأمينها فتصبح بالتالي غير مريحة ولا تخضع للمعايير الدولية ويقود هذا قطعا الى ان تصبح فضاء غير محبب للتلاميذ وطاردة لهم ويتراجع آليا تصنيف تونس في مجال جودة التعليم. وهو ما حدث بالفعل.
وهنا من المهم التأكيد على طرح هذا الملف القديم المتجدد في السياق الحالي لاسيما مع التغيير الحاصل في صلب وزارة التربية بعد ان تولت هذا المنصب السيدة سلوى العباسي والأكيد ان عديد الملفات المهمة مطروحة اليوم على مكتبها في انتظار مباشرتها سواء تعلق الأمر بملف الإصلاح التربوي المؤجل منذ سنوات أو موضوع الامتحانات الوطنية التي باتت قاب قوسين او أدنى بالإضافة الى موضوع المجلس الأعلى للتربية والتعليم الذي اقترحه رئيس الجمهورية قيس سعيد والذي سيكون لبنة مهمة من لبنات الإصلاح الشامل في هذا القطاع.
هذا بالنسبة للملفات التربوية اما بالنسبة الى المسائل الإدارية والنقابية المطروحة اليوم على الوزيرة الجديدة فهي كثيرة ومتشعبة أيضا ولعل أهمها بلا منازع هو موضوع التدقيق في الشهادات العلمية والانتدابات العشوائية الى جانب بلورة حلول ناجعة وناجزة للقضايا النقابية العالقة.
ولعله من نافلة القول استذكار أهمية التعليم والتربية في النهوض بالأمم او التأكيد على المكانة المركزية التي تبوأها هذا القطاع في تونس منذ مرحلة بناء الدولة الوطنية والرهانات الكبرى التي رافقت مرحلة التأسيس.
ولعلنا لا نحتاج قطعا الى ان نعود الى ما قيل بشأن اصلاح التعليم منذ 14 جانفي 2011 الى اليوم إذ كان اغلب وزراء التربية في الحكومات المتعاقبة لا يفوّتون فرصة دون التأكيد على برنامجهم وهو الإصلاح التربوي الشامل. وما بين اللوحات الرقمية كرهان اقصى وتوفير الماء الصالح للشراب في المدارس كحد أدنى ظلت هذه الأفكار حبرا على ورق بل لعلها لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به.
مرفق القضاء حجر الأساس في بناء الدولة ومؤسساتها : ..والعدل أساس العمران..
هل نحتاج الى استحضار مقولة علاّمتنا الكبير عبد الرحمان بن خلدون: «العدل أساس العمران» للت…