في كل زيارة غير معلنة للمؤسسات والمنشآت العمومية يستعرض الرئيس قيس سعيد أمام التونسيين حجم وهول الفساد الذي ضرب هذه المؤسسات وهرّأها ونهب كل مدّخراتها ووضعها على «تماس الافلاس» أي ذاك المنتهى الذي لا شيء من بعده غير التفويت فيها للمتربصين بها من الداخل ومن الخارج.
حجم الفساد شاسع وضخم وممتد ـ كالمتاهة ـ في محاصرته لكل مؤسسات الدولة وقد تمكن ـ بالفعل ـ من تأسيس «دولة» داخل الدولة ولها عناوين بل قُلْ شبكات «متعددة الاختصاصات» عملت وما تزال على امتداد عقد ونيف على «تأصيل» هذه الشبكة بما سيجعلها عصيّة صعبة التفكيك وهو ما يفسر وجودها القوي الى حدّ الآن رغم عزيمة «دولة الرئيس» التي تتحرك بالسرعة القصوى لانهاء هذا «السرطان» الذي أقام على جسد الدولة التونسية ويكاد ان يحيلها على «الانعاش» لولا هذا الاصرار على المقاومة…
وبما أن الحال على ما هو عليه… وبما أن التشوهات عميقة وقد ضربت في كل المضارب التونسية فإن الجهد الفردي ومهما كانت قوة العزائم لن تصمد أمام حجم الفساد ولن تُنهْى هذا «الغول» الجاثم على البلاد التونسية وبالتالي فإن المطلوب هو توزيع هذا «العزم الشخصي» الذي يعبّر عنه الرئيس قيس سعيد، وترجمته الى «عزائم» أي تحويل «الارادة الشخصية» الى «ارادة دولة» و«ارادة مؤسسات» وبأكثر وضوح فإن ما يقوم به الرئيس من جهود شخصية مضنية لمطاردة الفساد ومن ثمة وضع حدّ للوبياته من الضروري ان يتحول الى «مشروع دولة» وأن تتولى هذا المشروع «هيئات مختصة» تستمد قوّتها وصلاحياتها من الصلاحيات المطلقة الممنوحة للرئيس وهو ـ هنا ـ مرجع النظر في كل أعمالها. مع الاشارة الى أن قرار تجميد أعمال الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لم يعلن عن بدائل لها خاصة وأن تجميدها قد ألحق أضرارا بالمبلغين عن الفساد ممّن تم التنكيل بهم بعد ذلك كما أنّ تجميد الهيئة الوطنية لمقاومة الفساد قد تم على إثره أيضا تجميد القوانين المتعلقة بالتصريح بالمكاسب بالنسبة لكبار موظفي الدولة من وزراء وكتّاب دولة وغيرهم كما تعطلت ملفات التقصّي التي أنجزتها هذه الهيئة والتي تمّت احالتها برمّتها على الهيكل الإداري المختص لدى رئاسة الجمهورية والذي يتلقى ـ أيضا ـ كل البلاغات المتعلقة بشبهات الفساد ويبقى هذا الهيكل ـ في غياب الهيئات الدستورية ـ غير كاف ولا يمكنه ـ في الأخير ـ مواجهة هذه الجبال العواهن من ملفات الفساد ولوبياته الممتدة في كل مفاصل الدولة..
فملف «الغزالة» لوحده (الخطوط الجوية التونسية) تلزمه «هيئة» على حدة ومتفرغة تماما لملف الفساد الذي هتك ستر هذه المؤسسة الوطنية والتي كانت «أجنحتها» عنوان مصداقية وحرفية كبرى في «سماء الطيران» الدولي وقد «تداولت» عليها لوبيات الفساد منذ سنة 2011 (وقبل ذلك أيضا) ونهبوا منها ما نهبوا وسعى وكلاؤهم من داخل الشركة لتخريبها حتى تعلن افلاسها ومن ثمّة «التفويت فيها» إلاّ أنّ كل «المساعي الاجرامية» لم تفلح في ذلك وما تزال الشركة رغم كل شيء صامدة وما يزال الفساد متفشيا ـ أيضا ـ على جسدها رغم كل عمليات التطهير المتعاقبة وما كشفه الرئيس في زيارته أول أمس يؤكد حجم الفساد الذي مرّ على «الغزالة» وأنهك أجنحتها. (وملف الطائرة المفقودة جدي وليس للتندّر كما ذهب البعض الى ذلك).
وعليه فإنّ الأمر يحتاج ـ حقيقة ـ الى «هيئات رئاسيةترجع بالنظر المباشر الى رئاسة الجمهورية كما يحتاج الأمر الى مقاربة شاملة والى تشريعات جديدة حتى يكون التنفيذ ناجعا ومكثفا.. خاصة وأن تونس ما تزال ـ رغم كل الجهود ـ في المرتبة 87 عالميا في مؤشر مدركات الفساد من أصل 180 دولة… وهنا لا بد من الاشارة الى غياب «المجلس التشريعي» عن «الحرب» التي تخوضها «دولة الرئيس» ضد الفساد حيث لم نسجل على امتداد سنة 2023 وبداية 2024 أي رغبة للمجلس للانخراط في هذه المعركة الوطنية بحيث لم تتقدم اي كتلة بما في ذلك المستقلون بأي «مبادرة تشريعية» سواء تعلق الأمر بتنقيح القوانين الموجودة وتعديلها حتى تصبح أكثر نجاعة أو باقتراح آليات وهيئات رقابية جديدة بحيث غاب المجلس عن كل هذا ولم يتقدم بما يفيد وجوده الايجابي في مثل هذه السياقات التي أصبح فيها الافلات من العقاب ممكنا وتحت عناوين ملتبسة خاصة بعدما تم وضع اقفال شديدة على من كانوا سببا في كشف عدد من قضايا الفساد الكبير وهنا نشير الى المرسوم 54 (وهذه واحدة من مآزقه التي غفل عنها المشرع) والذي ساهم في تراجع بل في خوف بعض الصحفيين والمدونين من أن يتم تتبعهم أو مساءلتهم قضائيا وقد يكون مآلهم السجن بمجرد ان يتحدثوا عن «شبهات فساد» عالقة بهذا المسؤول أو ذلك وقد كانوا الى زمان قريب «مصادر» في كشف عدد من ملفات الفساد.. نعم «المرسوم 54» ساهم ـ بالفعل ـ في تراجع وخوف المبلغين والمدونين والصحفيين وانسحابهم من المعركة التي تخوضها «دولة الرئيس» لمقاومة الفساد لذلك كله ندعو الى تحيين القوانين والمراسيم والتأسيس «لجهد وطني» يشترك فيه كل التونسيين أفرادا ومؤسسات..
فالحمل ثقيل جدا ويلزمه طاقة وطنية تسند وتؤازر «طاقة الدولة».
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…