أثار رئيس الجمهورية مساء أول أمس موضوع الحريات وتحديدا حرية التعبير وذلك خلال لقائه بالرئيس المدير العام لمؤسسة «سنيب لابراس ـ الصحافة اليوم» ومفوض دار الصباح وكان اللقاء مواتيا بالنسبة للرئيس بما أنه يتعلق بمؤسستين اعلاميتين ليؤكد مرة أخرى على :«ان حرية التعبير مضمونة في تونس بالدستور وان التاريخ لا يمكن ان يعود الى الوراء ـ مضيفا ـ للتدليل على ذلك :«وإن كان هناك من يبحث عن دليل فلينظر كل صباح في عناوين الصحف وليستمع ويعيد الاستماع للحوارات التي تتم في وسائل الاعلام ومن يروّج لعكس هذا إنما يكذّب نفسه بنفسه ويكذبه المشهد الاعلامي بوجه عام…» ويهمنا ـ هنا ـ ان نخوض في هذا الأمر باعتبارنا جزء من هذا المشهد وبالتالي نحن معنيون مباشرة بهذا الحديث الذي نبدأه من حيث انتهى الرئيس…
لنؤكد بان الحريات مضمونة بالفعل بالدستور والفصل 55 يمنحها حصانة حقيقية ولا يمكن المساس بها أو تبديلها أو تنقيحها الا في الحالات القصوى حيث نجد في منطوق هذا الفصل ما يلي :«لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور الا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الامن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العمومية ويجب أن لا تمسّ هذه القيود بجوهر الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وان تكون مبررة بأهدافها متناسبة مع دواعيها ولا يجوز لأي تنقيح ان ينال من مكتسبات حقوق الانسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور وعلى كل الهيئات القضائية أن تحمي هذه الحقوق والحريات من أي انتهاك…»
وكما هو واضح فإن منطوق الفصل 55 من دستور 2022 يؤكد ضمن اعلاناته على مبدإ جوهري ومهم وهو استحالة التراجع عن الحقوق والحريات المكتسبة بموجب القانون بل نجد المشرع ـ هنا ـ وقد حصّنها ووضع عليها اقفالا شديدة بحيث لا يمكن المساس بها بقوله و«على الهيئات القضائية ان تحمي هذه الحقوق والحريات من أي انتهاك» …لكن وفي المقابل لم يغلق المشرع أبواب تأويلها أو تعديلها أو تعزيزها بما يمكن أن يتناقض معها كليّا أحيانا وذلك بقوله في نفس الفصل (55) «لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها نظام ديمقراطي وبهدف حماية حقوق الغير أو لمقتضيات الأمن العام أو الدفاع الوطني أو الصحة العمومية»… ـ هنا ـ يترك المشرع باب الفصل 55 مواربا وهو الباب الذي تسرب منه ـ في اعتقادي المرسوم 54 المثير للجدل والذي تحول بدوره الى «قفل شديد» وجب التوقف عنده بما فيه من اعلانات وأحكام متعارضة مع مبدإ الحريات الذي نصّ عليه الفصل ذاته من دستور 22 أي الفصل 55 ففي منطوق المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال وخاصة الفصل 24 من المرسوم ثمّة صياغات ملتبسة وغير دقيقة بحيث يمكن تأويلها في كل الاتجاهات وهو ما يتعارض مع فلسفة التشريع في المادة الجزائية التي تستدعي الوضوح والدقة في صياغة النصوص على أن لا تكون قابلة للتأويل خاصة في باب تجريم الافعال.
وكنا تحدثنا بإطناب وأكثر من مرة عن «مزالق» المرسوم 54 وأكدنا أنه لا يمكن بأي حال من الاحوال الدفاع عنه أو اسناده وخاصة بالنسبة للمشتغلين بالاعلام (الا اذا كان ذلك من باب النفاق والانتهازية) لما فيه من عقوبات زجرية سالبة للحريات لا تتناسب في الواقع مع الافعال المجرمة سواء كانت أكاذيب أو اشاعات أو أخطاء مهنية…
والمرسوم 54 تسرّب كما أشرنا من ذاك الباب الموارب الذي «غفل» عنه المشرع في الفصل 55 من دستور 22 والذي أكد على أنه لا توضع قيود على الحريات الا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها حماية الامن العام والدفاع الوطني… وقد جاء المرسوم 54 بهذه «النوايا الطيبة» أي من أجل حماية مؤسسات الدولة وتحصين القيم المواطنية من كل انتهاك للأشخاص والاعراض وحماية أمن الدولة ومؤسساتها الا أنه ذهب بعيدا في «تجريم الافعال» وفي تطبيق ما ورد في منطوق الفصل 24 وهو منطوق قاسٍ وجب تعديله بما لا يتعارض مع دستور 2022 الذي يضمن الحريات في مستوى اعلاناته لكنه يفرط فيها لفائدة المرسوم 54 والدعوة موجهة هنا الى المشرع لمراجعة الفصل 24 خاصة وأن القانون التونسي بكل نصوصه وتشريعاته فيه ما يجعلنا في غنى عن المرسوم 54 برّمته…
المشهد الاعلامي كما أشار الى ذلك رئيس الجمهورية متنوّع فيه ما فيه من جدية ومن مصداقية وفيه ما فيه أيضا من ابتذال وابتزاز وهذه مسألة يمكن للمهنة ومؤسساتها ان تسعى لتعديلها هذا ولا ننكر ان هامش الحريات حقيقي وفعلي ولا أحد فرض على المؤسسات الاعلامية خطها التحريري بشكل رسمي ومباشر أو في شكل تعليمات فوقية كما كان يحدث سابقا وهذا ما يمكن ملاحظته في بلاتوهات الحوارات الاذاعية خاصة والتلفزيونية وفي الصحافة المكتوبة أيضا على أن تتحمل كل مؤسسة مسؤولياتها المهنية والقانونية في حال تجاوزها لأخلافيات العمل الصحفي وإن هي سمحت لنفسها بالدخول في منطقة هتك الاعراض أو الانخراط في أعمال عدائية ضد الدولة ومؤسساتها وما عدا ذلك فإنّ المشهد الاعلامي بما فيه من جدية ومصداقية وبما فيه أيضا من ابتذال وابتزاز يمكن تعديله لكن دون المساس بما نعتبره مكتسبات في علاقة بالحريات… حرية التعبير تحديدا…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…