المسألة‭ ‬المالية‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬صدارة‭ ‬اهتمام‭ ‬الدولة‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬الاطار‭ ‬يمكن‭ ‬تنزيل‭ ‬طرحها‭ ‬في‭ ‬الاجتماع‭ ‬الذي‭ ‬اشرف‭ ‬عليه‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيد‭ ‬بحضور‭ ‬رئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬احمد‭ ‬الحشاني‭ ‬ووزيرة‭ ‬المالية‭ ‬سهام‭ ‬البوغديري‭ ‬نمصية‭ ‬والذي‭ ‬تناول‭ ‬في‭ ‬جانب‭ ‬من‭  ‬جوانبه‭ ‬موضوع‭ ‬التدقيق‭ ‬المالي‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬والبنوك‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬حيث‭ ‬دعا‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬الى‭ ‬مباشرة‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭.‬

ويأتي‭ ‬هذا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬تبين‭ ‬وجود‭ ‬عديد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الذين‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬قروض‭ ‬دون‭ ‬اي‭ ‬ضمانات‭ ‬تذكر‭ ‬او‭ ‬بضمانات‭ ‬شكلية‭ ‬صورية‭ ‬ليس‭ ‬إلاّ،‭ ‬لا‭ ‬تعادل‭ ‬بأي‭ ‬حال‭ ‬من‭ ‬الأحوال‭ ‬الأموال‭ ‬التي‭ ‬اقترضوها‭ ‬بل‭ ‬نهبوها‭ ‬وفق‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬البلاغ‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬رئاسة‭ ‬الجمهورية‭ ‬في‭ ‬صفحتها‭ ‬الرسمية‭.‬

والأكيد‭ ‬ان‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬تحيلوا‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬عبر‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬قروض‭ ‬لا‭ ‬يستحقونها‭ ‬والذين‭ ‬مازالوا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬هروب‭ ‬الى‭ ‬الامام،‭ ‬يواصلون‭ ‬فسادهم‭ ‬المالي‭ ‬معتقدين‭ ‬ان‭ ‬يد‭ ‬العدالة‭ ‬لن‭ ‬تطالهم‭ ‬معولين‭ ‬على‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬القانون‭ ‬وانه‭ ‬يمكنهم‭ ‬البقاء‭ ‬خارج‭ ‬دائرة‭ ‬المحاسبة‭ ‬ونيل‭ ‬الجزاء‭ ‬الذي‭ ‬يستحقونه‭. ‬

إذن‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬يتم‭ ‬طرح‭ ‬قضية‭ ‬التدقيق‭ ‬المالي‭ ‬في‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬والبنوك‭ ‬وهذا‭ ‬يعكس‭ ‬أهمية‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭ ‬لدى‭ ‬السلطة‭ ‬اليوم‭ ‬التي‭ ‬تراهن‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تسميه‭ ‬بالتطهير‭ ‬أي‭ ‬مكافحة‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬الأجهزة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬والذي‭ ‬مس‭ ‬كل‭ ‬مفاصل‭ ‬الدولة‭ ‬على‭ ‬امتداد‭ ‬عقد‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

والواضح‭ ‬ان‭ ‬الدولة‭ ‬رفعت‭ ‬لواء‭ ‬محاربة‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬الفساد‭ ‬وفي‭ ‬مقدمتها‭ ‬الفساد‭ ‬المالي‭ ‬الذي‭ ‬تفشى‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬وشمل‭ ‬جل‭ ‬القطاعات‭ ‬والمجالات‭. ‬

والأكيد‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬صعوبات‭ ‬كبرى‭ ‬واشكاليات‭ ‬جمة‭ ‬واجهت‭ ‬إمكانية‭ ‬النجاح‭ ‬الكلي‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬االحربب‭ ‬فهناك‭ ‬جيوب‭ ‬ردة‭ ‬مازالت‭ ‬تقاوم‭ ‬خاصة‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬استغلوا‭ ‬ضعف‭ ‬الدولة‭ ‬وراكموا‭ ‬ثروات‭ ‬طائلة‭ ‬دون‭ ‬وجه‭ ‬حق‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬شبه‭ ‬تام‭ ‬للمراقبة‭ ‬والمحاسبة‭.‬

ورغم‭ ‬ذلك‭ ‬تمكنت‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬وجيزة‭ ‬نسبيا‭ ‬من‭ ‬توجيه‭ ‬ضربات‭ ‬موجعة‭ ‬الى‭ ‬بعض‭ ‬اباطرة‭ ‬الفساد‭. ‬ولعل‭ ‬مقاضاة‭ ‬بعض‭ ‬رجال‭ ‬الاعمال‭ ‬الكبار‭ ‬تتنزل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاطار‭ ‬وكذلك‭ ‬الامر‭ ‬بالنسبة‭ ‬الى‭  ‬فتح‭ ‬باب‭ ‬الصلح‭ ‬وإعادة‭ ‬المال‭ ‬المنهوب‭ ‬أمامهم‭  ‬عبر‭ ‬لجنة‭ ‬الصلح‭ ‬الجزائي‭ ‬والتي‭ ‬ما‭ ‬تزال‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬عملها‭ ‬ولم‭ ‬تحقق‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬المأمول‭. ‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬حال‭ ‬مكافحة‭ ‬الفساد‭ ‬المالي‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬فإن‭ ‬القطاع‭ ‬العام‭ ‬أيضا‭ ‬نخره‭ ‬سوس‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬الخطيرة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬نتاج‭ ‬تعاقب‭ ‬حكومات‭ ‬فاشلة‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬حوكمة‭ ‬الأوضاع‭ ‬بالجدية‭ ‬والصرامة‭ ‬المطلوبة‭ ‬بالإضافة‭ ‬الى‭ ‬هشاشة‭ ‬الدولة‭ ‬اجمالا‭ ‬وارتباكها‭ ‬في‭ ‬العشرية‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬انتفاضة‭ ‬14‭ ‬جانفي‭ ‬2011‭. ‬دون‭ ‬ان‭ ‬نغفل‭ ‬عن‭ ‬دور‭ ‬بعض‭ ‬الفاعلين‭ ‬السياسيين‭ ‬الذين‭ ‬استغلوا‭ ‬مناصبهم‭ ‬المهمة‭ ‬من‭ ‬اجل‭ ‬تحقيق‭ ‬منافع‭ ‬ومكاسب‭ ‬مالية‭ ‬لهم‭ ‬ولذويهم‭ ‬تحرّكهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬عقلية‭ ‬الزبونية‭ ‬ومنطق‭ ‬الغنيمة‭ ‬الذي‭ ‬ساد‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬الى‭ ‬تفقير‭ ‬ممنهج‭ ‬للشعب‭ ‬التونسي‭ ‬وانحدار‭ ‬كبير‭ ‬لأوضاعه‭ ‬المالية‭ ‬والاقتصادية‭. ‬ولعل‭ ‬الراهن‭ ‬الذي‭ ‬يكابد‭ ‬صعوباته‭ ‬المواطن‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬نتاج‭ ‬حتمي‭ ‬لتلك‭ ‬الفترة‭. ‬

ومن‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬أهمية‭ ‬القيام‭ ‬بالتدقيق‭ ‬المالي‭ ‬المطلوب‭ ‬بجدية‭ ‬وبسرعة‭ ‬ونجاعة‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬هياكل‭ ‬الدولة‭ ‬وأجهزتها‭. ‬

ومعلوم‭ ‬أن‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬في‭ ‬مجملها‭ ‬تعيش‭ ‬وضعيات‭ ‬مالية‭ ‬بالغة‭ ‬الصعوبة‭ ‬جراء‭ ‬تراكم‭ ‬الديون‭ ‬وعجزها‭ ‬عن‭ ‬السداد‭ ‬وتدهور‭ ‬أوضاعها‭ ‬عموما‭ ‬ولم‭ ‬تسلم‭ ‬حتى‭ ‬تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬ذات‭ ‬القدرة‭ ‬التنافسية‭ ‬العالية‭. ‬الصورة‭ ‬الحقيقية‭ ‬لهذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬تجلّت‭ ‬لرئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬قيس‭ ‬سعيد‭ ‬خلال‭ ‬زيارته‭ ‬الى‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬معمل‭ ‬الفولاذ‭ ‬بمنزل‭ ‬بورقيبة‭ ‬ومعمل‭ ‬عجين‭ ‬الورق‭ ‬بالقصرين‭ ‬ومعمل‭ ‬السكر‭ ‬بباجة‭ ‬وهذه‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬نماذج‭ ‬فغيرها‭ ‬كثير‭. ‬

والأكيد‭ ‬ان‭ ‬الدولة‭ ‬اليوم‭ ‬متمسكة‭ ‬بهذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬ولا‭ ‬تريد‭ ‬التفريط‭ ‬فيها‭ ‬لكنها‭ ‬أيضا‭ ‬تريد‭ ‬إصلاحها‭ ‬بشكل‭ ‬جذري‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬أعلى‭ ‬هرم‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬واضح‭ ‬انه‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لفتح‭ ‬الباب‭ ‬لبعض‭ ‬المتربصين‭ ‬بفرص‭ ‬الانقضاض‭ ‬على‭ ‬المال‭ ‬العام‭ ‬عبر‭ ‬الخوصصة‭ ‬اوالتفويت‭ ‬الجزئي‭ ‬في‭ ‬رأسمال‭ ‬بعض‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭. ‬وانه‭ ‬من‭ ‬الضروري‭ ‬مباشرة‭ ‬خطط‭ ‬عملية‭ ‬للنهوض‭ ‬بهذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬ومنطلق‭ ‬هذا‭ ‬بالتأكيد‭ ‬هو‭ ‬التدقيق‭ ‬المالي‭ ‬الذي‭ ‬سيخبر‭ ‬عن‭ ‬آليات‭ ‬الفساد‭ ‬المعتمدة‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬وعن‭ ‬المفسدين‭ ‬والمتواطئين‭ ‬معهم‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬وغير‭ ‬مباشر‭ ‬وسيكون‭ ‬اهم‭ ‬لبنة‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬المعلنة‭ ‬على‭ ‬الفساد‭ ‬او‭ ‬في‭ ‬اصلاح‭ ‬المؤسسات‭ ‬العمومية‭ ‬واعتبارها‭ ‬القاطرة‭ ‬الأهم‭ ‬للنهوض‭ ‬بالاقتصاد‭ ‬الوطني‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

التشغيل في تونس : «أم المعارك» التي لا بدّ من خوضها

لا شك ان احد الرهانات المطروحة على تونس اليوم هو التشغيل بكل ما يعنيه هذا الملف من تعقيد  …