2024-03-24

لبنى مليكة عن مسرحية «حلمت بك البارح»(2من2): باللطف وبالحدس أمضي إلى الجوهر

يقدّم ابراهيم جمعة  ولبنى مليكة مسرحيتهما«حلمت بك البارح» بشكل مكثّف شاعري كالتالي: « لماذا نتخيّل بالأساس؟»

لماذا نقوم بفعل ما بالأساس؟

أن تغطس بالسؤال لا بإمكانيات الإجابة. لأن الإجابة تستحيل أن تكون كلّاً متكاملًا متناسق الحواف والأشكال. تتداخل الحدود وتتلاشى شيئًا فشيئًا كضوء في العتمة، كقنديل بحر في الماء، كابن داخل جسد أم. لكن هل ينطبق ذلك على المعتدي والضحية؟».

هنا الجزء الثاني من الحوار مع فنانة ترى أنّه «يكفي من العنف. وعلينا أن نواجهه؛ كلّ ودوره. نواجهه بالجمال وبالشعر وبالحبّ. نواجهه بالفضح وبالكشف ولكن بطريقة جميلة».

*تُختتم المسرحيّة  بحلم ترويه لابراهيم ، يختلط فيه الشعري بالواقعي، تتحدّثين فيه  كيف أنّ الجوع قادم، وكيف يصرخ  الناس  فرحا بعودة السميد إلى الأسواق، وكيف أنّك حلمت بشريكك في المسرحية وهو يعود طفلا إلى بطنك، طفلا بأجنحة يمسك بهاتف ويتفرج فيسألك  سؤالا يقفل العرض «على شُو»..

نحن فرجة. حضرتم لتتفرّجوا علينا، ومعا نتفرّج على كل ما هو دائر بنا. الحلم الأخير رجوع للواقع ولليومي ولكن دائما بأداة الحلم. رجوع لي ولابراهيم. إنه طريقة لنتقاسم مع الجمهور ما بُني بيننا ونحن نشتغل. الحلم هو قفلة لمحور بحثنا في الشخصيات ومدى تماهينا معها، نقاط الالتقاء بيننا وبينها إلى درجة أنّ ابراهيم نفسه قد تحوّل في أحلامي إلى طفل لي. في ذلك الحلم تمْثل فوضى الواقع الذي نعيشه اليوم. عندما نتأمّل ما حولنا اليوم نرى الفوضى والانهاك والتجويع. العالم اليوم مقسوم بين غني وفقير. ما يحدث في فلسطين يحدث بين غني وفقير. رأس المال يحكم العالم ونحن لسنا إلا سوقا ولا نسوى شيئا. ما يحدث في غزة لطمة حقيقية. البارحة رأيت فيديو للتاجر الذي بكى عندما قال له الحريف إنّه من فلسطين. ماذا تكون دمعته غير دمعة المحكوم فيه وماذا يكون انكساره غير انكسارنا كلنا. لا نستطيع إلاّ أن نتحدّث عن أزمة السميد  وعما تنقله الشاشات التي تحيط بنا؟

*قدم شريكك في العمل ابراهيم جمعة من سوريا ومن أهوال الحرب. نسأل عن كيفية مقاربتكما لما عاشه وعايشه من عنف ومن قسوة ؟

مسألة سوريا كانت صعبة وسط سيروة الخلق. ثمّة ما يشبه تصنيفا للعنف في حدّ ذاته وتراتبية لآثاره ووقعه. بمعنى أنه  مقابل انسان عاش الحرب ورأى الدماء والقتل من الممكن أن تكون حادثة العنف في المعهد مُنسّبة كثيرا. طُرح سؤال إلى أيّ مدى تستطيع تنسيب العنف وتقول هذا أعنف وذاك أخطر. من الممكن طرح السؤال ولكن يبدو لي أنّ العنف عنف، مهما قلّ أو كثر، وله نفس الوقع على البشر سواء قُتل شخص واحد أو مائة. صعب الحديث عن سوريا وعن الحرب. ابراهيم شخص رهيف جدا، لذلك كان العمل معه يستوجب أن تكون حريصا وأن لا تخضّه. قد يكون الخضّ تقنية قوية كثيفة مهمة ولكن يبدو لي أنّه ليس بالخضّ بل باللطف تُقال الأشياء وتُقتسم مع الآخر بكثير من الحساسيّة. من الممكن أن لا يكون وقعها قويا، ربما، إلا عندما تخضّ المتفرج، فيتساءل مرتعبا لماذا تفعل ذلك؟ ولكن يا حبّذا لو تقتسم معه دون أن تخاطب البدائي فيه، بل تخاطب الشاعر فيه.

*ماذا عن الرؤية الاخراجية ؟

ما يهمّنا هو كيف نصل إلى الجوهر وكيف نقتسم مع المتفرج سيرورة الخلق لفضح وكشف كل شيء. تفضح فنّ التمثيل وتتحدّث عنه ليراه المتفرج ويرى الأدوات التي تستعملها كلها ومنها الاضاءة. من المحبّذ دون اصطناع..

*لماذا هذا الفضح للعبة الممثل ؟ هل هو  نوع من التغريب؟

فضح التمثيل بمعنى تقتسم معه الثنية التي قطعتها وأنت تمشي باتجاه الشخصية. بمعنى كشف اللعبة المسرحية كلها. لذلك يبدأ العرض بمرور المتفرّجين من الكواليس كأنّها دعوة للدخول معنا في عالمنا. تدخل معنا من نفس الباب الذي نمرق منه، تشْغل الركح معنا لتكون جزءا منه. كأنه لا وجود لعلاقة مواجهة بين متقبّل وباث. تعال وعش معنا التجربة، ولتكن قريبا جدا لترى الضوء  وكل شيء مكشوفا أمامك. عندما تقرّب الجمهور منك إلى تلك الدرجة وتحدثّه عن الثنيّة التي قطعتها وكيف بحثت عن الشخصية، يتطلّب ذلك حتّى على مستوى التمثيل رؤية أخرى فرضت علينا. كما لاحظت نحن لا نصرخ في أيّما لحظة من العرض. كيف نصرخ وأنت هنا بقربنا رغم أننا نتحدث عن القسوة والأمومة والعنف. لعب الممثل مبني على التقاسم. كنت أحبّذ أن أوشوش، لكن تقنيا ولكي يصل صوتك ترفعه إلى درجة معينة. وفي ذلك كان هناك نوع من المخاطرة. لي أكثر من عشرين سنة وأنا أشتغل ولي مجموعة من الأدوات أتساءل بها..

ما هي ؟

التعبيريّة، ابدال الحركاتtransposition des gestes ،… الخضّ أيضا تقنية. تقول لو أجرّب وأمثّل دون أن أمثّل. صعب ولكن عليك أن تتحمّل تلك الصعوبة. في وسط الثنية تفطن بنفسك تمثّل ولكنّك تتوصّل إلى حلّ وسط بين حد أدنى من التقنيات وبين إحساس باللطف يجب أن يكون موجودا. من المهمّ أن تبلّغ  بالايحاء وأن لا تنطب.

* كأنّما هناك حالة ثالثة أو شخص ثالث يتوسّط بين شخصيتك كممثلة وشخصية الأم الطبيعية..

لأنني أحببت أم كرهت أنا لست تلك الشخصية. فيها جزء كبير مني ولكن من المستحيل أن أكونها. ليست لي الجرأة والوقاحة للقول أنّني أمثّل تلك الأم الواقعية. لا أستطيع أن أحسّ بما عاشته لأنني ببساطة لم أعشه، ولكن أستطيع من خلال سحر الخيال أن أتخيّل حالة ثالثة: أم ممكنة. لا توجد الأم بإطلاق، ثمّة أمّهات، وهذه أمّ ممكنة يراها المتفرّج وهي تُبنى شيئا فشيئا، يرى جزءا منها في شذرة ممكنة مقتطعة من الحياة وكأنه ينظر إليها من شقّ ومن زاوية معينة ومن ثقب.

* بالاضافة إلى محور التمثيل ما الأشياء الأخرى التي رغبتما في فضحها ؟

الاضاءة، الفضاء، العلاقة بيننا وبين المتفرج، قطع خيط الحكي؛ مثلا عندما أتحدّث عن اللون الأصفر، أبقينا من دلالته الحياة والموت، أقول إنّني قد وجدت هذا القميص  الأصفر الذي ألبسه الان، اعتباطا في خزانة ملابسي، فأخذته. هناك أحيانا جانب بإمكانك أن تقول عنه أنه اعتباطي أو حدسي، أردت أن أكشفه. هناك أشياء أمشي اليها حدسيا. ابراهيم عندما يتحدّث عن السياق ويقول أرى نفسي وسط الماء وأرى شظايا، أرى أمّي تنظف الدم ، أرى الشام غارقة في الماء، أرى رفقات راحوا ولا أعرف أين هم وأرى الولد مكسيا بالدم لأن الدم هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن إلا أن يرى ويختم بالقول وسط كل هذا تريدني أن أروي لك حكاية لها معنى. هذا فضح للكتابة في حد ذاتها.

عملية الفضح هذه على مستوى الدراماتورجيا، فرضت علينا أن نشتغل على التشظي éclatement ، وأن نقتسم مع المتفرج لحظات حياة، مثلا هناك لحظة قصوية عادية في العرض، un moment limite banal ، حين كنت بصدد الكلام ثمّ قلت لابراهيم يكفي  لقد تعبت، تلك كانت لحظة حياة، حمّلناها أوجاعنا من خلال الخيال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في مكتبة  «الصحافة اليوم»: كتاب tunisiables  نبش في أحوال التونسي وتقلباته لشكري الباصومي : حياتنا فقيرة قيميّا وحضاريّا وثقافيّا

في الصفحة 11 من كتابه “ tunisiables   نبش في أحوال التونسي وتقلّباته” الصادر حديثا عن دار …