نحتفل اليوم ككل التونسيين بذكرى الا ستقلال الثامنة والستين دون انكار لما تعيشه تونس من ازمات معقدة سياسية واجتماعية واقتصادية ودون إنكار لصعوبة المرحلة المحاصرة داخليا بالجشع والاحتكار وكل أشكال المضاربة وعجز مؤسسات الدولة على احتوائها زائد الفشل في وضع مقاربة ناجعة من أجل تسقيف الاسعار حتى لا نصل الى هذا الحد من الانفلات في الاسواق والذي انعكس على حال المواطن الذي يكاد اليوم ان يتسول رزقه نضيف الى هذا كله حراك سياسي صعب وحياة سياسية بلا محتوى اي بلا احزاب وبلا منظمات فاعلة ومؤثرة.. كل هذا يدعو الى مراجعات نقدية حقيقية لمعنى السيادة المشتبك بالضرورة بقيم المواطنة وبدونهما لا معنى للاستقلال..!
يحتفل التونسيون اليوم بالذكرى 68 لعيد الاستقلال.. ذكرى عزيزة على التونسيين سعى الذين وفدوا على السلطة ما بعد الثورة إلى إفراغها من محتواها وحولوها الى ذكرى انقسام وفتنة بين التونسيين ومحلّ تشكيك وترذيل لكل الوقائع التاريخية والنضالية التي بفضلها حصلت تونس على استقلالها التام وبما حولها الى بلد نسميه «وطنا» ولمواطنيه كل السيادة على أراضيه…
لقد سعى الاخوان والذين جاؤوا من بعدهم على امتداد العقد الأخير الى زرع كل أسباب الفتنة لتقسيم التونسيين من حول ذكرى هي مصدر افتخارهم وهي ذات حمولة رمزية ثقيلة باعتبارها المحطة التي منها انطلقت مسارات التأسيس والتحديث للدولة الوطنية… وقد دفعت تونس الثمن باهظا من دم وأرواح نسائها ورجالها على يد فرنسا الاستعمارية التي يعتبر جيشها من أكثر «الجيوش جهالة» كما جاء في توصيف المؤرخين وقد تمكنت تونس من الحصول على استقلالها الداخلي في غرة جوان 1955 ثم وبعد مفاوضات عسيرة مع السلطات الاستعمارية تم وبتاريخ 20 مارس 1956 توقيع بروتوكول الاستقلال حيث تم الاعتراف بوضوح بالاستقلال التام لتونس وذلك تحت ضغط الكفاح الوطني الذي اجبر فرنسا على امضاء معاهدة الاستقلال…
هي ذكرى عزيزة كونها لم تكن هدية من «سماء الاستعمار الفرنسي» بل نتيجة كفاح وطني دموي امتد لسنوات طويلة تمكن بفضله «رجال البلاد ونساؤها» من افتكاك السيادة ومن انتزاع حريتهم التي كانت مغتصبة… وهي محل افتخار ـ أيضا ـ كونها تعكس طبيعة «أهل تونس» وشخصيتهم التي ترفض كل أشكال الذل والاستعمار ولا ترضى بغير العزّة.
ورغم محاولات عدد من الانتهازيات الحزبية والمزاجات السياسية ـ كما أشرنا ـ والتي سعت لضرب الاجماع من حول تاريخ استقلال تونس فإنّ الذكرى كانت أكبر من كل محاولات إفراغها من المحتوى الرمزي والتاريخي واستمرّ التونسيون في الاحتفال بيومها الموافق لتاريخ 20 مارس من كل عام والذي لا يمكن عزله موضوعيها عمّا تشهده تونس اليوم من صعوبات اقتصادية واجتماعية غير معزولة ـ بدورهاـ عن حراك اقليمي ودولي متأزم بل شديد التأزم كان له تأثير مباشر على تونس وعلى أرزاق مواطنيها.. دون أن نعلّق بطبيعة الحال خيبات الداخل على شماعة الأزمات الاقليمية والدولية فنحن أيضا ـ هنا في تونس ـ وبعد سبعة عقود من الاستقلال ما يزال «الاستعمار» جاثما على رؤوسنا وما يزال المسيطر على غذائنا وعلى أرزاقنا وعلى مواردنا المالية أيضا وذلك بسبب فشل كل السياسات العمومية ما بعد الثورة في التأسيس لمنوال تنموي يخرج بنا من هذه التبعية التي حوّلتنا الى «رهائن دائمين» لدى «المستعمر» القديم والذي عاد الينا من أبواب المؤسسات المالية المانحة وعلى رأسها «صندوق النقد الدولي» وهو عنوان من عناوين الاستعمار في شكله الحديث..
بعد سبعة عقود من الاستقلال ما تزال تونس مرتهنة للأسواق الدولية لتوريد القمح وكل المواد الأساسية بما في ذلك المواد التي حققنا فيها فائضا واكتفاء ذاتيا.. وهي اليوم مهددة في أمنها الغذائي والذي أصبح مرتهنا بالأزمات الاقليمية والدولية أي أنّ «أمر غذائنا» ليس بأيدينا وهذا أيضا نتيجة فشل السياسات التنموية على امتداد العقد الأخير الذي اختار حكّامه (الاخوان ومن جاورهم) الحلول السهلة لإدارة شؤون الدولة والمجتمع حيث توجهوا مباشرة الى التداين من الدول والصناديق المانحة وبشروط الصناديق بطبيعة الحال وبإملاءاتها وما في ذلك من مساس واختراق للسيادة الوطنية.
ندرك عميقا بأنّ تونس ليست معزولة عن محيطها الاقليمي والدولي وبأنّها تتأثر بأزماته السياسية والاقتصادية لكن هذا لا يبرّر مطلقا هذه الحال التي وصل اليها التونسيون ولا يبرّر هذه الطوابير المخجلة والمتدافعة من أجل الحصول على الخبز أو الفارينة أو السكر أو الحليب..
ان استقلال الدول مرتبط ارتباطا كاملا بسيادتها الوطنية والسيادة في جوهرها لا تعني السيطرة على حدود ترابية مرسومة فحسب بل هي في عمقها ان تكون الدولة قادرة على الاجابة عن اسئلة مواطنيها واقناعهم كلما تعلق الامر ـ مثلا ـ باسئلة البطالة والفقر وضيق الارزاق وان تكون قادرة على الاجابة على اسئلة التربية والتعليم وعن اسباب هذا الانهيار للمدرسة العمومية..وان تكون قادرة على اقناع شبابها وكفاءاتها بعدم المغادرة.
ليست السيادة ومن ثمة الاستقلال في ان نأكل ونشرب وننام بل في مدى احساس المواطن بمواطنته وكونه شريكا في هذا البلد وبأن حريته التي دفع من أجلها الاباء الدم والارواح لا يمكن المساس بها او مصادرتها او محاصرتها باقفال ومراسيم، وبأن كرامته مصانة وبأنه لا مزيداة في ان نكون احرارا ومختلفين في بلد لا يليق به غير تعدد الألوان والمذاقات تماما كحدائق العشاق..
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…