بعدما أنهى مهام كل من وزير النقل السيد ربيع المجيدي ووزيرة الشؤون الثقافية السيدة حياة قطاط القرمازي وباعتبار شحّ المعطيات الحافّة بهذه الإقالات التي وردت علينا في شكل «بلاغات رئاسية» مقتضبة لا تفصح ـ عادة ـ عن الاسباب فإنه من حقنا أن نسأل ما الذي دفع بالرئيس قيس سعيد الى اتخاذ مثل هذه القرارات والتي تجيء في سياقات صعبة وملتبسة قد يؤخذ فيها المرء بجريرة الآخرين ـ كما يقولون ـ خاصة وأن «دولة الرئيس» بصدد محاربة الفساد والذي ضرب كل مفاصل الدولة وتوزع داخل مؤسساتها واتخذّ عناوين وأشكالا مختلفة…
فكيف نفهم هذه الاقالات…؟ وهل هي في علاقة بشبهات فساد عالقة بالوزيرين…؟ أم ان المسألة في علاقة بغضب الرئيس وبالتالي هي مجرد ترجمة لهذا الغضب الذي لم يُخْفه في زياراته غير المعلنة لعدد من المؤسسات الثقافية ولعدد من مستودعات النقل وقف خلالها على كمّ الفساد والاهمال الذي ضرب القطاعين في مقتل وحوّلهما الى قطاعات «للخردة» منتهية الصلوحية…
لا بدّ من التأكيد ـ هنا ـ على أن الوزيرين لم تتم إقالتهما بسبب تورطهما في ملفات فساد فلا شبهات عليهما في الواقع وبالتالي فإن أسباب الاقالة إنما هي في علاقة مباشرة بضعف أداء الوزيرين بما يعني أن الخطأ في الأصل كان في مستوى «الكاستينغ» فالوزيران لم يكونا في مستوى ما عُهِدَ اليهما من أدوار كبرى في «دولة الرئيس» المحاصرة في الواقع بسياقات صعبة اقتصادية واجتماعية وسياسية وهي هنا مطالبة بمضاعفة الجهود والامكانيات للخروج ولو نسبيا من أزمات معقدة ومتعبة وهذا يعني ـ بالضرورة ـ او هو يستدعي وجود نساء ورجال دولة أكفاء يمكن التعويل عليهم لإسناد «الدولة» حتى تحقّق خلاصها.. أما وان يتحول عدد من اعضاء الحكومة الى عبء معطّل غير قادر على تسيير شؤون وزارة فإن الوضع في مثل هذه الحال يستدعي تغييرا استعجاليا ودون تردد خاصة اذا ما اتضح بأن الوزير ـ أيّا كان ـ قد تحول الى مشكل والى مصدر ازعاج قطاعي كما هو الحال بالنسبة لوزيرة الثقافة المقالة والتي لم يعد بامكانها الاستمرار على رأس الوزارة بعدما انقطعت بها كل سبل التواصل مع نظرائها ومع أهل القطاع من فنانين ومثقّفين.
ليس الفساد في أن تنهب مالا او ان تتورط في صفقات غير قانونية وانما الفساد الحق وهو الأخطر ـ هنا ـ هو في اللامبالاة والاهمال وفي التعالي على القطاع الذي تشرف على ادارته.. وان لا تكون لك القدرة على الانصات للناس ولمنظوريك وان لا تكون مؤهلا لتقديم أفكار انقاذ واصلاح وان تغلق ابوابك «الوزيرية الباذخة» وان تمارس نرجسية متعالية ومريضة تحوّلك في الآخر الى كائن معزول ومعطّل لا ترى فشلك بوضوح وتعتبر كل «الآخرين» من حولك اعداء ومتآمرين على وجودك «الوزيري»..
ندرك جيدا وعميقا ان لا وجود لوزير في حكومة الحشاني يتوفر لديه مشروع انقاذ او إنماء وتطوير للقطاع الذي يشرف عليه وبأنهم كلهم بصدد تسيير الشؤون اليومية لوزاراتهم دون ان تكون امامهم «بوصلة تحرك وانجاز»..فهل حدث وان تقدم وزير بمشروع انقاذ أو «بمقترح انقاذ» للقطاع الذي يشرف عليه..؟ مَنْ مِنَ الوزراء تواضع وغادر مكتبه في جولة غير معلنة للمؤسسات التي تعود اليه بالنظر.. ولنأخذ قطاع النقل ـ مثلا ـ الذي يعتبر من القطاعات الكارثية في تونس والأكثر إهمالا وفسادا ولا مبالاة ونسأل متى غادر وزير النقل مكتبه من أجل الاطلاع على معاناة المواطنين وخاصة الطلبة والموظفين ؟ وهل هو مطلع على تفاصيل صفقة الحافلات القديمة التي اقتنتها وزارته من أسطول الخردة الفرنسية…؟ وهل يدرك بأن أغلبها منتهية الصلوحية ورغم ذلك اقتنتها تونس بالعملة الصعبة وتحوّلت بعد ذلك الى عبء على الوزارة وعلى مستودعات الخردة…
مشاكل النقل في تونس تتجلى بوضوح في الشوارع وفي المحطات وتعلن عن نفسها صباحا مساء ومع ذلك لم نسجّل حضورا للسيد وزير النقل على أرض الواقع وانتظرنا تحرك الرئيس في زيارة غير معلنة حتى نقف على حجم الدمار.. ما يفسّر غضبه وما يبرّر قراره انهاء مهام «السيد الوزير»…
نفس الشيء بالنسبة لوزيرة الثقافة التي عزلت نفسها في مكتبها وقطعت كل سبل التواصل مع منظوريها في الادارة وفي الساحة الثقافية والفنية واختزلت «الحياة الثقافية» في مدينة الثقافة وهي في كل ذلك بين افتتاح أو اختتام دون ان تكون لها مبادرات حقيقية وخاصة في مستوى تطوير التشريعات التي يعود بعضها الى ستينات وسبعينات القرن الماضي مع عدم حرصها من أجل التسريع بالمصادقة على قانون الفنان المُضيّع منذ سنوات في رفوف مجلس النواب وكان بإمكانها بل من حقها ان تطالب «بأولوية النظر» من المجلس وقد اكتشف الرئيس في زيارته الأخيرة بتاريخ 21 فيفري 2024 حجم الاهمال الذي حوّل مؤسسات ثقافية مرجعية الى خراب غير مقبول على غرار المكتبة الخلدونية ومكتبة الديوان وهي معالم مرجعية يدفع البعض للتفويت فيها الى بعض المستثمرين المترصّدين… نضيف الى هذا كلّه غياب أيّ مشروع لترميم هذه المعالم التي أصبحت خطرا حقيقيا يهدّد حياة المواطنين ونذكر هنا الانهيار الذي حدث في سور القيروان منذ أسابيع بقرب «باب الجلادين» وتسبب في وفاة ثلاثة عمّال وما يزال سور القيروان ـ برمّته ـ مهددا بالانهيار الكامل… ألم تكن هذه الحادثة كافية لأن تقدم الوزيرة استقالتها من تلقاء نفسها وخاصة بعد تسجيل ثلاث وفيات..؟ فمن المسؤول في مثل هذه الحال .. ألا يعتبر هذا الاهمال «فسادا كبيرا» يجرّمه القانون…؟.
لقد تولت وزيرة الثقافة شؤون وزارتها منذ 21 أكتوبر 2021 مع حكومة نجلاء بودن أي سنتين وخمسة أشهر على رأس الوزارة قضتها في معارك شخصية ولم تقدّم ما يدل على مرورها بهذه الوزارة المنكوبة.
إقالة الوزيرين لها ما يبررها بقوّة ويكفي النظر في حال القطاعين لندرك حجم المبررات ولندرك أيضا بأنّ «الكاستينغ» منذ البداية كان بمقاييس خاطئة باعتبار أنّ المرحلة تحتاج الى كفاءات قادرة على اسناد مؤسسات الدولة حتى تحقق خلاصها ولا تحتاج الى «ولاءات»غير مؤهلة لتحمل المسؤولية تتحوّل بعد ذلك الى عبء ثقيل على الدولة ذاتها… «فليكن» الكاستينغ القادم بوجوه مكشوفة وعلى أساس الكفاءة لا غير… على أن تكون السياسات العمومية وفي كل القطاعات بعناوين واختيارات واضحة حتى يتحرك الجميع على «خط سيادي واحد»..
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…