هيئة الانتخابات : دروس المرحلة وتحدّياتها
بإعلانها على النتائج النهائية للدور الثاني لانتخابات المجالس المحلية يمكن القول بأن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات قد أوفت بوعودها والتزمت بما كلّفه بها رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي عهد لها بدور متقدم في تنفيذ مشروعه السياسي حيث أشرفت على الاستفتاء على الدستور الجديد ثم الانتخابات التشريعية بدوريها الأول والثاني وهاهي تستعد لإنجاز الانتخابات الرئاسية خريف هذه السنة بعد تركيز الغرفة الثانية بطبيعة الحال، وقد تسهر أيضا على الانتخابات الجزئية لاستكمال تركيبة البرلمان وربما الانتخابات البلدية خصوصا وان الاعتمادات المالية متوفرة.
وكما هو معلوم فإنّ تركيبة مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تركيبة خاصة أو لنقل استثنائية بما أنها جاءت في إطار المراجعات التي شملت مؤسسات الدولة بعد 25 جويلية 2021 ورغم أن الدستور الجديد الجاري به العمل رسميا الآن منذ صيف العام 2022 ينص على فريق يتكون من تسعة أعضاء فإن القائمين على الهيئة اليوم سبعة أعضاء فقط وهي نقطة اختلف في تأويلها وقراءتها المختصون في القانون وحتى النشطاء السياسيون والمدنيون.
ويُحسب لهذه الهيئة أنها نجحت في تنفيذ المطلوب منها وأبلت البلاء الحسن في احترام الرزنامة الانتخابية في كل محطة من المحطات التي تسارعت وتيرتها وشكلت حقيقة تحديا كبيرا أمام المشرفين عليها وتم تأثيث كل محطة بندوات صحفية لتقديم المعطيات على مدار الساعة وتتويجها بندوة ختامية للإعلان عن النتائج النهائية.
على ان هذا الجانب الايجابي في أداء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لا يمكن ان يحجب عنا جملة من المسائل التي تفرض علينا تسجيل بعض الملاحظات والرسائل الايجابية أيضا التي تنفع الهيئة وتنفع البلاد والعباد.
والبداية بطبيعة الحال هي متصلة بضرورة التوقف عند نسبة المشاركة الضعيفة في الاستحقاقات الانتخابية التي أنجزتها هذه الهيئة. صحيح انه ليس ثمة عتبة أو سقف أو نسبة مائوية لتزكية النتائج وتثبيتها، لكن الشرعية والمشروعية كما يقول مدرّسو القانون تظل في النهاية مرتبطة بعدد الناخبين المشاركين في عملية الاقتراع وشرعنة الاستحقاق.
ولا يمكن تبرير العزوف وضعف المشاركة بدعوات المعارضة مثلا لمقاطعة الانتخابات فالكيانات السياسية والمدنية لا تملك القدرة الجماهيرية على فرض هذا الأمر، كذلك طبيعة الانتخاب على الأفراد ضمن دوائر محلية ضيقة خلافا لانتخابات تدخلها الأحزاب بقائماتها وفي دوائر كبيرة على الصعيد الوطني لا تفسر النسبة المتدنية، ولا يمكن فوق كل ذلك التذرع بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تلقي بظلالها وتعيق الاهتمام بالشأن العام أو الحديث عن أن مجتمعنا رئاسي بطبعه وميّال للانتخابات الرئاسية أكثر من بقية الاستحقاقات الأخرى التشريعية والبلدية وغيرها..
وحتى لو سلّمنا بذلك، فإن مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لم يشر الى ذلك مطلقا ولم يسع الى تفسير واستنباط الحلول لتجاوز هذا الوضع غير الطبيعي، تماما مثل ما فعل عندما لم يتفاعل مع مسألة التزكيات في الانتخابات التشريعية وهو يمسك السجل الانتخابي ويعرف نظريا أعداد الناخبين في كل دائرة لنجد أنفسنا أمام تعذّر كي لا نقول استحالة جمع التزكيات في سبع دوائر منها دائرة على الأقل أو اثنتين يصعب فيها التوفيق في العثور على 400 تزكية لنفس المترشح فما بالك عندما يتعلق الأمر بترشحات متعددة..!
واليوم يتواصل الجدل والخلاف أو الاختلاف بين مجلس الهيئة ومجلس نواب الشعب في الموقف من الشغورات وهل هي من مشمولات هيئة الانتخابات التي أعلنت النتائج النهائية واعترفت بأنها لم تجر الانتخابات في سبع دوائر أم دور المجلس ليعترف بأن لديه شغورات والحال انه لم يستقبل في رحابه نوابا بعد..
مسألة أخرى أثّرت في تقديرنا في اشعاع وفي مردودية عمل الهيئة وهي العلاقة بالإعلام فقد أسر المجلس نفسه في الاعلام العمومي وحتى داخل الاعلام العمومي اقتصر على محملين فقط واستغنى في المقابل عن الاعلام الخاص الذي كان محرّكا ومحفزا على المشاركة السياسية وعلى الاقبال بكثافة في جميع الاستحقاقات الانتخابية ولا يمكن الاستناد الى ما قيل انها مظاهر فساد او اخلال في العملية الانتخابية للتخلي عن دور الاعلام الخاص وهذه أمور تحتاج للمراجعة والتدارك.
وفي علاقة بهذه النقطة بالذات وكما سبق وأن أشرنا إلى ذلك في عديد المناسبات منذ ان اختارت بلادنا فك الارتباط بين وزارة الداخلية والانتخابات وتركيز هيئة مستقلة تكون العمود الفقري في عملية الانتقال الديمقراطي، فإن وظيفة رئيسية سقطت للأسف من حسابات وعمل جميع مجالس الهيئة صراحة وهي وظيفة نشر الثقافة الانتخابية او الثقافة السياسية بشكل عام باعتبار أننا خرجنا من مرحلة الانتخابات المعروفة نتائجها مسبقا والمنجزة على المقاس الى انتخابات حلمنا بان تكون حرة ونزيهة وشفافة وتضفي الشرعية على من يختاره الشعب ليعبّر من خلالها عن سيادته.
ان هيئة الانتخابات تتعامل بشكل جدي ومثمر مع مؤسسات الدولة في المسائل الترتيبية المتصلة بانجاز اختبار الانتخابات ونقصد هنا مجلس النواب الشعب على سبيل المثال من أجل الحصول على الاعتمادات وعدد من الوزارات المعنية مباشرة كوزارات الخارجية والدفاع والداخلية والتربية دون أن ننسى التناغم والانخراط في المشروع الرئاسي وما يعنيه ذلك من مسؤولية..
بقي أن المعنيين بالانتخابات هي الجمعيات والاحزاب والنشطاء المستقلون وهؤلاء بعيدون عن اهتمامات مجلس الهيئة كما رأينا في الفترة الماضية فلا وجود لأنشطة تثقيفية أو تعريفية مشتركة في الوقت الذي تبرز فيه من يوم إلى آخر أهمية التربية على الانتخابات خصوصا عندما نرى بعض المخالفات الانتخابية الناجمة عن الفقر الثقافي أو عزوف بعض المواطنين لانهم لا يعرفون لماذا ينتخبون وحتى بعض المترشحين أنفسهم لا يدركون احيانا أدوارهم المستقبلية.
وخلافا للمجالس السابقة لهيئة الانتخابات، فان المجلس الحالي كثّف من اللجوء للقضاء لتتّبع من يعتبرهم مخالفين له ولأدائه ولمواقفه بمن فيهم أعضاء وزملاء سابقون في الهيئة، إلى جانب النشطاء السياسيين وذلك بالاستناد إلى المرسوم عدد 54 المثير للجدل، ومع تحرّك الآلة القضائية وصدور بعض الأحكام والإيداع بالسجن، فإن الخشية كبيرة من انعكاسات ذلك على الاستحقاقات الانتخابية القادمة وعلى صورة الهيئة وعلى الحياة السياسية وصورة تونس وخصوصا المزاج الشعبي العام الذي عرف حرية بلغت في بعض الحالات درجة الانفلات في ظل غياب التأطير والتثقيف والوعي، لكنّها تظل حرية ضرورية ومغمّدة بالدماء والتضحيات وبفضلها انبثقت المؤسسات الجديدة للدولة على درب الديمقراطية ومنها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي يجب ان تستجيب لكل التحديات والرهانات بمسؤولية ورحابة صدر وتملّك للرسالة.
في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!
تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…