2024-02-21

إيقاف ظاهرة «القن الجديد» و«تحرير العبيد» ممكن.. نحتاج بدائل حقيقيّة للمناولة والتشغيل الهش..!

يدرك حكام تونس على مرّ العقود أن الدور الاجتماعي للدولة شرط أساسي من شروط الاستقرار والسلم الأهلية لذلك دأبوا جميعهم على الاجتهاد في اتخاذ خطوات في اتجاه ترسيخ هذا الاتجاه رغم الانحدار من اليمين وتبنّي منظور رأسمالي وليبيرالي للاقتصاد لذلك ظلت هذه الخطوات منقوصة وعادت بالوبال على البلاد والعباد وظلت المشكلة أو التحدي جاثما في انتظار حل جذري.

هذه الأيام كان رئيس الجمهورية قيس سعيد جريئا في إعلان ضرورة فك الارتباط مع ما يسمى «عقود المناولة» ومع كل أشكال التشغيل الهش وطلب من رئيس حكومته أحمد الحشاني ادراج هذا الموضوع على جدول أعمال مجلس الوزراء القادم خلال لقائه به يوم الاثنين 19 فيفري 2024 وهنا يرى رئيس الجمهورية حسب ما نُشر في الصفحة الرسمية بالفايسبوك ان الحلّ هو في وضع حد لما يسمّى بـ«عقود المناولة» التي تعتبر نوعا من الرقّ وكذلك ما يسمى «الآليات» والمقصود بها آليات التشغيل التي كشف انها لا تترك أي أمل في بناء مستقبل آمن لمن يعمل في إطارها.

ووجّه الرئيس بالمناسبة رسالة الى أصحاب رؤوس الأموال الذين يحق لهم حسب قوله تحقيق الاستقرار لكن من أبسط الحقوق المشروعة للعامل أيضا تحقيق الاستقرار والحصول على مقابل مجز وعادل.

واستشهد هنا بالأرقام التي تبرز حسب رأيه أن آلية التشغيل الهش لاإستقرار فيها ولا عدل ولا إنصاف شأنها في ذلك شان آلية العقود المحددة في الزمن في حين ان السلم الاجتماعية لا يمكن أن تتحقق الا بالعدل والانصاف.

وقد بيّنت الأحداث والوقائع في السنوات الماضية صحة هذا الاستنتاج، فما يزال كثير ممن يُعرفون بـ«عمال الحضائر» يحتجّون ويناضلون من أجل وضع حد لحالة «الرق» التي يعيشونها وكذلك الامر بالنسبة الى المدرسين في مستويات التعليم المختلفة الابتدائية والثانوية وغيرها من القطاعات.

ولئن شرعت الدولة في معالجة هذه الظاهرة بشيء من الخجل والبطء جراء ضعف الامكانيات واجتهدت مثلا في قطاع التعليم مع المربين المناوبين والمتعاقدين، فان الأمر يتطلب حلولا جذرية لا ترقيعية ومجزأة ولا تقف فقط عند إصدار تشريعات تمنع الظاهرة وتعاقب من يجرؤ على مخالفتها فالأمر يتعلق بالدور الاجتماعي للدولة وبالدولة الاجتماعية أو ببساطة ببيئة يطيب فيها العيش، يستقر فيها صاحب رأس المال والعامل وتستقر فيها الدولة ومؤسساتها بطبيعة الحال.

ان جنوح المسؤولين في الدولة في الفترة الطويلة الماضية الى المناولة والى آليات التشغيل الهش كان خيار الضرورة وللأسف قبلت به الأطراف الاجتماعية والنقابات المهنية بما فيها الاتحاد العام التونسي للشغل سعيا للتخفيف من وطأة البطالة والفقر والخصاصة وغيرها من المشكلات التي تهدّد العيش الكريم للتونسيين والأمل كان دائما في ان هذه الحلول هي وقتية في انتظار الحلول النهائية غير ان ما أصبح متعارفا عليه في التجربة التونسية هو أن المؤقت مؤبّد ومكبّل وعبء على من يريد التغيير خصوصا اذا كان مفتقرا لبدائل تبدو يسيرة لكنها مكلفة سياسيا واجتماعيا لانها حقيقة مؤلمة في ظل ضعف الامكانيات وهو ما يستوجب الكثير من التضحيات التي بيّنت التجربة ان فكرة تقاسمها غير مقبولة من قبل من يمسك بالسلطة.

ان الحسم مع المناولة والتشغيل الهش بكل انواعه اي القطع مع الأشكال الجديدة من الرق بإصدار تشريع في الغرض يرتقي الى ثورة تشريعية تضاهي خطوة تجريم العبودية في بلادنا قبل أكثر من 200 سنة باعتبار أننا في النهاية نرنو الى تحرير الانسان وتحرير الانسان يجب ان لا يكون مؤقتا او هشا حيث تتجدد أشكال استعباده واستغلاله.

ونعود هنا الى دور الدولة والى من يمسك بدواليبها وضرورة ان تكون لديه مقاربة اجتماعية واقتصادية وثقافية، اي برنامج حكم متكامل يسمح بتنظيم الأدوار داخل الدولة فيلاقي كل فاعل فيها حقّه وفرصته في تحقيق ذاته سواء كان رجلا مبادرا صاحب ثروة ورأس مال أو أجيرا ذا كفاءة من أصحاب الشهائد او من ذوي المهارات اليدوية. ان الاتفاق يكاد يكون عاما حول سلبية المناولة ومختلف آليات التشغيل الهش التي أضرت بـ«المنتفعين» نظريا بها ونقصد بهم أساسا الأجراء وحتى الدولة ومؤسساتها فالخدمات التي تتم عبر المناولة مثلا هي في نهاية المطاف أساءت في عديد الحالات ان لم يكن في أغلبها الى سمعة المؤسسات العمومية لانها أفضت وأسدت خدمات رديئة حُسبت على الدولة.

واليوم، ونحن نأمل إيقاف ظاهرة «القن الجديد» و«تحرير العبيد»، نراهن على ضرورة تأمين المستقبل بتوفير مواطن الشغل ومتطلبات العيش الكريم وذلك من خلال مواصلة اضطلاع الدولة بدورها الاجتماعي بل وتعزيزه والعودة الى نسق معقول ومدروس من الانتداب في القطاع العام وخلق مناخ ملائم للاستثمار في بلادنا واذكاء روح المبادرة الخاصة حتى يجد أصحاب الأموال في الداخل والخارج البيئة المناسبة الآمنة والمستقرة والمشجعة على المغامرة وبعث المشاريع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

في تفاعل بعض الوزراء مع نواب المجلسين : شيء من الواقعية وشيء من المبالغة أيضا..!

تتواصل تحت قبة البرلمان هذه الأيام الجلسات العامة المشتركة بين مجلس نواب الشعب والمجلس الو…