تحتاج الديمقراطية الى «طبائع عقلانية» حقيقية وعميقة تنعكس في الاختيارات وفي الممارسات وفي السياسات العامة وفي كيفية ادارة المرحلة وفي تدبير شؤونها… والمقصود بـ«الطبائع العقلانية» هو تلك الممارسات التي لا تصدر عن انفعالات أو رغبات شخصية أو نزوع مزاجي ذاتي وإنما هي «طبائع» مشتبكة بالمعرفة وبالحكمة وبالتوازن في التفكير وفي الفهم لقضايا المجتمع واحتياجاته وهي «طبائع» لا تنزع نزوعا عاطفيا وإنما مصدرها «العقل المنتج» وهو عقل حركي هادئ وغير منفعل له من الوعي ما يؤهله «لعقلنة» كل قضايا الدولة والمجتمع بقطع النظر عن حجمها ومدى أهميتها…
تعيش تونس اليوم «مرحلة نادرة» سياسيا واجتماعيا وثقافيا والندرة ـ هنا ـ بمعنى الدهشة أو الادهاش والمدهش… وهي ـ هنا أيضا تعني ـ الفرادة أو التميّز… ـ ولا نقصد بها ندرة الارزاق ـ مثلا ـ وقلّتها أو ندرة في المواد الغذائية وإنما نحن نتحدث عن «مرحلة نادرة» أي مرحلة بلا شبيه وبلا مثال سابق مرحلة فريدة في طبيعتها السياسية والمجتمعية والثقافية وغريبة في حراكها وفي شؤونها وفي أطوارها وفي قضاياها وفي اسئلتها المعزولة عن قضايا المجتمع… مرحلة لا نقاش فيها ولا تفكير ولا وسائط ولا منابر حوار ولا مراكز بحث علمي ولا أكاديميات ولا مخابر للانتاج المعرفي بل مجرد «فضاءات» لرفع الامية… مرحلة ضاق فيها الفضاء العمومي الى حدّ لم نعد نراه بعدما تم افراغه من محتواه بحيث أصبح حضور «الآخرين» غير ضروري وغير ممكن بما حوّل «فكرة الحوار» الى فكرة عبثية بما أنه غير ممكن في غياب «الآخرين» والمقصود «بالآخرين» هم الذين يشتركون معنا في تقاسم «الفضاء الحيوي» وفي إثرائه بما هو مختلف وغير متداول…
«الآخرون» هم كل ما يسمى بالاجسام الوسيطة من أحزاب وجمعيات ومنظمات وتمثيليات حقوقية وغيرها من «الأجسام» التي يعتبرها «هابرماس» حزام الامان الذي يحيط بمنظومة الحكم ويضفي عليها الشرعية والمشروعية حتى وإن كانت هذه «الاجسام» احزابا معارضة لمنظومة الحكم ذاتها فذاك عنوان كبير من عناوين «الديمقراطية» التشاركية التي تدفع الى تقوية حضور «الأجسام الوسيطة» في النقاش العام بما يضفي على قرارات «منظومة الحكم» وقوانينها وتشريعاتها الجديدة مشروعية تستمد مقبوليتها من حجم المشاركين في هذا النقاش ومصداقيتهم بحيث تكون القوانين أو المراسيم المستحدثة والصادرة عن «منظومة الحكم» نتاج نقاش بين مكونات المجتمع المدني والحقوقي ومن هنا تستمّد قوتها بما يجعلها مقبولة لدى الرأي العام الوطني حتى وإن كانت تعسفية ولنضرب ـ مثلا ـ على ذلك المرسوم عدد 54 الذي لم يهدأ الجدل من حوله الى حدّ الآن فقد كان بالامكان تمريره «بعقلانية» وبهدوء دون ان يحدث كل هذا الضجيج لو تم إخضاعه للنقاش العام وللتداول بين المعنيين والمهتمّين بمجالات النشر والتفكير والتعبير وخاصة الاعلاميين وهياكلهم النقابية…
كان بالامكان اخضاع هذا المرسوم للنقاش بحيث يتم تعديله بالاجماع أو رفضه بالاجماع وبالتالي البحث عن بدائل تملأ المقاصد..
قلنا أن تونس اليوم تعيش «مرحلة نادرة» أي مرحلة مدهشة ـ بالفعل ـ يمكن ان نضع لها العناوين التالية.. عناوين تَسِمُهَا وتشي بفرادتها:
العنوان الأول هو تصفية الحسابات ـ قضائيا ـ مع «العشرية السوداء» ومع كل رموزها وكل عناوينها ويتجلى ذلك في فتح كل الملفات من ذلك ملفات الاغتيالات السياسية وعلى رأسها قضية اغتيال شكري بلعيد وهو الملف الذي تحركت أوراقه بسرعة قياسية ويكاد يصل الى المنتهى وفيه ادانة «لدولة الاخوان» ورموزها وهي الدولة التي امتدت ورافقت «العشرية السوداء» بل هي التي كتبت «روايتها».
العنوان الثاني: هو تصفية الحسبات مع «دولة الفساد» بكل عناوينها أيضا وهي «دولة قوية» ومتنفذة وقد اخترقت كل مفاصل الدولة التونسية ومؤسساتها و«دولة الفساد» هي ـ في الواقع ـ صنيعة من صنائع «العشرية السوداء» ومشتبكة تماما معها.
العنوان الثالث: هو أيضا من باب «تصفية الحساب» مع من كانوا متعاونين مع «حكّام العشرية السوداء» واخوانها وقد تم الدفع بهم الى «سجون الايقاف» بتهم ثقيلة جدا وهي «التآمر على أمن الدولة» ونجد من بينهم وزراء سابقون وكتاب دولة ومدير ديوان رئاسي وعدد من السياسيين من حساسيات مختلفة ينتمون لما يسمّى «بجبهة الخلاص» وهي جبهة «أخوانية» معارضة لقيس سعيد وتعتبر مساره مسارا انقلابيا…
هذه ثلاثة عناوين من «مرحلة» أسميناها «مرحلة نادرة» أي «مدهشة» سياسيا وقضائيا ويمكن ان نضيف هنا توصيفا آخر للمرحلة بالتأكيد على أنها مرحلة «الحسم قضائيا في كل ما أنتجته «العشرية السوداء» من عناوين ومن أسماء ومن جرائم ارهاب وفساد واغتيالات…
لذلك قلنا بأنها «مرحلة نادرة» دون ان نغفل القول بأنها «نادرة» لكنها معزولة ـ في نفس الوقت ـ عن قضايا المجتمع بكل آفاقه وقضاياه المنسية وبالتالي فإنه من الضروري التعجيل بانهاء هذه «المرحلة النادرة» والحسم في كل «قضاياها السياسية» حتى نمر بعد ذلك الى ما هو أولوي من قضايا مجتمعية عالقة أو مؤجلة…
«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!
من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…