لم تمتد حياة شكري بلعيد طويلا ولم يتوغل في العمر عَتِيًّا إلاّ أنّ مسيرته النضالية قد تكثفت وانتقلت من جيل الى جيل فقد انخرط مبكّرا في النضال السياسي من الحركة التملذية ثم مسيرة شاقة في الجامعة ثم مسيرة مقاومة كمحام.. وباعتبار قوّة شخصيته وعمقه المعرفي وقدرته على الفهم والتحليل والاستشراف أصبح ـ في وقت ما ـ العنوان الوحيد للتيار الوطني الديمقراطي متكلما وناطقا باسمه والمنظّر لأطروحاته وزعيمه المتقدّم على كل الواجهات…

بعد الثورة نهض شكري بلعيد «كمقاتل شرس» ومحارب لكل أشكال التطرف فقاوم فقهاء الدين وانتصر عليهم.. قاوم الفكر الأصولي وانتصر عليه.. قاوم ميليشيات الثورة وروابطها وانتصر عليها.. قاوم «الطالبانيين الجدد» وانتصر عليهم.. وكلما حاورهم رفعوا في وجهه آيات التكفير البيّنات.. لقد كان محاورا ذكيّا لا تعوزه الحجة ولا المعرفة.. وكان يحفظ أدبياتهم ومراجعهم وأدرك مبكرا خطورة مشروعهم على تونس ودعا الناس في التلفزيون الى قراءة كتاب «إدارة التوحش» الذي يعتبر «دستور الاخوان الحقيقي» ويضع فيه كاتبه «خارطة طريق داعشية للسيطرة على الدول والشعوب» عبر مراحل يذكرها الكتاب بدقة.. شكري بلعيد كان يحمل ـ باستمرار ـ هذا الكتاب في محفظته ويدعو التونسيين الى قراءته حتى يفهموا مدى خطورة الحركة الإخوانية..
ولذلك ولهذا كلّه وغيره كان لا بدّ له من قاتل.. فقد تحوّل شكري بلعيد الى خطر حقيقي على المشروع الاخواني لا في تونس ـ فحسب ـ بل في كل المنطقة.. فهيّأوا له موته كما يجب..
رحل مغدورا وأخذ معه المدائح والأذكار والتسبيحات والشعر والأغنيات ولم يترك للمدينة غير أغنية تذكّر الناس بأنه يحدث أن يموت المرء من أجل فكرة.. والبلد فكرة نسمّيها «وطنا» والوطن عزيز لو يدرك العابرون وسط هذه الكلمات…
*****
في مثل هذا اليوم 6 فيفري من كل عام تطلّ على البلد ذكرى أعمق التشوّهات الجاثمة على جسد «الثورة التونسية»… ذكرى كجمر أو كنار لم تهدأ أبدا وهي تطارد حقيقة اغتيال الشهيد شكري بلعيد وقد توزّع دمه بين «قبائل» مجهولة من شهود زور وأمن مواز واعلام فاسد وعدالة بلا ضمير…
هي انذل وأجبـن عملية غدر وقد تم تنفيذها على مرمى ومسمع من أجهزة الدولة الاخوانية التي كانت تراقب ـ عن بعد ـ عملية الاغتيال منذ تدبيرها الى غاية تنفيذها وهي ذات الاجهزة التي تكفلّت بعد الاغتيال بمهمّة اتلاف الملّف وتضييعه بين أروقة المحاكم ومن ثمّة تعويمه على أيدي قضاة متواطئين مع جرائم دولة الاخوان التي استحوذت على البلد وضمّته الى غنائمها…
لقد كان الشهيد شكري بلعيد «كدمّل» على جسد مخططاتهم فضحهم على كل المنابر… كشف فسادهم وثرواتهم وأدبياتهم وما كانوا عليه ـ وقتها ـ من «توحش» وقال عنهم بأن لا ولاء لهم لغير الترابي والبنّا وبأنهم صناعة مخابراتية لتدمير الشعوب ولم يتعب من الصراخ في التلفزات بأنهم «سيمرّون الى العنف كلّما حوصروا»… وقد حاصرهم ـ بالفعل ـ بقوّة صوته الذي تحول الى «عتبة فولاذية» تصدت لتوحشهم في ادارة شؤون الدولة التي استولوا عليها باسم الله… وباسم الله اهدروا دمه في المساجد بعدما كفّروه ودعوا الى تصفيته وقد حرّضوا عليه في التلفزات المتواطئة وعلى «المنابر المعممّة» وكان لهم ذلك حيث اهتزّ البلد صباح اغتياله في يوم اسود من أيام تونس الكئيبة بتاريخ 6 فيفري 2013 أمام بيته وأمام بناته حيث استقرت الرصاصة برأسه ففاض «دمه الشهيد» وفاضت البلاد من بعده كيوم قيامي مشهود… وكان على «الاخوان» ان يتحركوا بسرعة لتضييع الحقيقة فانتدبوا شهود زور ولصوصا ومرتزقة وقضاة وأمنيين واعلاميين عملوا كلّهم ـ بتعليمات اخوانية ـ على اتلاف الملف وتعويمه فامتدّ وتفرق بين المحاكم…

لا أحد اقترب بعد ذلك من ملّف اغتيال الشهيد شكري بلعيد والذي التحق به في نفس السنة الشهيد المغدور ـ أيضا ـ الحاج محمد البراهمي الذي اغتيل بذات الايادي القذرة صباح عيد الجمهورية يوم 25 جويلية من سنة 2013… وقد تحوّلت واقعة الاغتيال بعد ذلك الأولى ثم الثانية الى عناوين انتخابية رئاسية وبرلمانية حيث وصل الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي الى القصر الرئاسي على «ظهر الذكرى» وكان وعد ناخبيه خلال الحملة الانتخابية بكشف الحقيقة كاملة إن هو وصل إلى قرطاج وبأن العدالة ستأخذ مجراها وبأن المحاسبة ستكون شديدة لكلّ من دبّر ومن نفّذ عملية الاغتيال ولمزيد اقناع ناخبيه دعا زوجة الشهيد لمرافقته في حملته الانتخابية بالعاصمة وبعد وصوله الى الحكم أجرى توافقا مع الاخوان فأصبحوا شركاء له في قرطاج وفي القصبة وكانت تلك خيبة من خيبات تونس على يد الباجي قائد السبسي الذي أعاد الاخوان من الأبواب الخلفية وكانت أيضا عنوان خذلان للشهيد ورفاقه وأهله بل خذلانا لتونس التي انتظرت اجراء العدالة حتى تأخذ مجراها… والخيبة كانت ـ أيضا ـ في البرلمان بعد صعود «رفاق الشهيد» من باب الذكرى وقد غفلوا عن ذكره بعد ذلك وعن الذكرى التي ترسخت بفضل شباب حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحّد ـ قبل توزّعه بين قبيلتين ـ ممن نذروا حياتهم من أجل معرفة الحقيقة، شباب لم يتعب من الوقوف كل يوم أربعاء أمام وزارة الداخلية للتذكير بأن «الدم ما يزال أخضر»… كما لم تتعب «هيئة الدفاع» من مطاردة الحقيقة وقد تكبّدت من أجل ذلك شقاء حقيقيا هي الآن بصدد جني ثماره.. حيث تكاد الحقيقة أن تعلن عن نفسها وقد تعلن عن نفسها في هذا اليوم الذي وصلت فيه «جريمة الاغتيال» الى المنتهى حيث تنظر المحكمة الابتدائية بالعاصمة اليوم في الطور الأخير من «ملف» الاغتيال بعدما اجتمعت لديها كل أوراق الإدانة.

ولم يكن للحقيقة أن تصل الى هذا المنتهى لولا سقوط «دولة الاخوان» يوم 25 جويلية 2021 حيث تم تفكيك التنظيم الاخواني أصولا وفروعا كما تم تفكيك قضائه وأمنه وإعلامه الموازي وتمّ الدفع بأبرز قياداته الى سجون الايقاف خاصة بعد أوراق الادانة التي تقدمت بها هيئة الدفاع عن الشهيدين وما فيها من حجج ودلائل عرّت ـ أوّلا ـ قاضي الارهاب البشير العكرمي رأس العدالة الاخوانية الذي ضيع ملف الاغتيالات بين قصور العدالة وهو الذي برّأ أعضاء الجهاز السري لحركة النهضة المشتبك بعمليات الاغتيال وبكل الجرائم التي ارتكبتها «دولة اخوان» في حق البلد وأهله…
لقد كان 25 جويلية 2021 التاريخ الذي حرر القضاء من سطوة الاخوان واعاد فتح الطريق أمام كشف حقيقة اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي دون ان ننسى ـ هنا ـ الجهود المضنية التي قامت بها هيئة الدفاع عن الشهيدين والتي تمكست بالملف وأصرّت على استنهاضه كلما غفل عنه الغافلون وذلك رغم ما تعرضت له من مضايقات ومن تهديدات بالتصفية.
اليوم تصل «واقعة الاغتيال» الى نهايتها في قصر العدالة التونسية واليوم وككل عام في مثل هذا التاريخ (6 فيفري من كل عام) ندين الحركة الاخوانية نصوصها ولصوصها وأدبياتها.. قيادات وقواعد وأنصارا.. ندين كل من مدّ اليها الأيادي وكل من ساندها وكل من تعاون معها وكل من جاورها في الحكم وكل من تواطأ معها وتعاطف.. وكل من استغاث ولاذ بها من سياسيين ومن رؤساء أحزاب وحكومات.. ندين قضاءها وأمنها وإعلامها وعسسها…
فليكن 6 فيفري من كل عام يوم للدعاء على الحركة الاخوانية وكل من تعاون معها وكل من جلس على موائدها وكل من دعّمها وساندها حتى بصمته.. يوم للدعاء على الاخوان حيثما حلوا وولّوا فهم كالجراد إن دخلوا بلدا أكلوا شعبه وعشبه…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

‫شاهد أيضًا‬

«مجلس أعلى للثقافة».. من أجل إعادة البناء..!

 من أكثر القطاعات التي تحتاج الى «حرب تحرير وتطهير» كبرى، قطاع الثقافة و«ثكنته البيروقراطي…