ما قام على الجريمة والكذب فاشل لا محالة
الأوان قد فات منذ أن قتل ياسر عرفات ومنذ أن قتل إسحاق رابين وأعلنت الجريمة انتصارها النهائي في تلك الساعة على التنازلات وخير ما فعلت هو أنها ظلت تكرر نفسها.
التأسيس على قاعدة الكذب والجريمة ما كان بوسعه أن ينتهي إلا بحكومة لصوص ومرتكبي جرائم عنف وإرهاب وتمييز عنصري، كهذه التي يقودها بنيامين نتنياهو في إسرائيل.
كان يجب للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أن يتوقف قبل نحو ربع قرن. فإسرائيل في وقتها كانت ما تزال تبدو وكأنها دولة تستعين، لتبرير حقها بالوجود على أرض الآخرين، بمعايير وقواعد قانونية، لنفسها على الأقل. كانت ما تزال قوية. وقادرة على أن تقدم «تنازلات». تلك «التنازلات» كان بوسعها أن تحمي الأكذوبة، وتُضفي «تضحيات» على الأسطورة. أسطورة «أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض».
لا يستطيع الفلسطينيون، برغم كل العذابات التي مروا ويمرون بها، إلا أن يحمدوا الله على هذه النتيجة. إذ ما من أحد كان بوسعه أن يقدم خدمة جليلة لفضح هذا «الكيان» أفضل من الإسرائيليين أنفسهم.
مجموعة المجرمين هي الممثل الرسمي الآن لـ «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». هي التعبير الأمثل عن طبيعتها، كأكذوبة صغيرة تحوّلت إلى سبب يبعث على مشاعر القرف، بين الإسرائيليين أنفسهم، الذين اعتقدوا أنهم قادرون على إقامة دولة قانون.
انظر في الخارطة السياسية، وسترى كيف تنحل وتتفكك تلك العصابات. سترى كيف تعود لتلتئم لتكون عصابة أكبر. ثم تعود لتتفكك. انظر في التفاصيل التي تصنع الشروخ. انظر في الصفقات التي يعقدها الفاسدون مع بعضهم البعض، ولسوف ترى ما يدلك على حقيقة واحدة هي أن هذا الكيان مجرد اختراع وهمي. وهو غير قادر، بسبب طبيعته نفسها، على العيش ككيان محترم.
رئيس الحكومة نتنياهو كان يجب أن يكون في السجن الآن، لو كانت إسرائيل دولة فعلا. إلا أنه عاد إلى السلطة للمرة السادسة، ليثبت أنه ملك فساد، وأن إسرائيل تشبهه، وأن ما ارتكبه من أعمال يتطابق مع طبيعة كيان قام على أسس فاسدة. فكان من الطبيعي تماما أن يُنتخب، ويعود ليُنتخب، ثم يُنتخب مرة أخرى وأخرى.
هناك البعض من الإسرائيليين المحترمين، بالمعنى الفردي، قدموا استقالاتهم، مثل سفيرتهم في فرنسا وسفيرهم في كندا. ولكنّهم تأخروا كثيرا. كان من الحريّ بهم أن ينظروا إلى المسار العام الذي مضى هذا الكيان على أساسه لنحو ثلاثة أرباع القرن. لقد كان مسار عنف وأعمال قتل وحشية ومظالم تثير القشعريرة في جسد كل بشر توجد فيه بضع خلايا تجعله قادرا على أن «يحس». ولكن حيثما مات الحس، فقد جاء الاستدراك متأخرا، وجاءت تلك الاستقالات متأخرة تماما.
لا شك أننا (نحن «العدو») أخطأنا كثيرا. بلداننا نفسها كيانات تجريبية. لا شك أن الفلسطينيين كانوا مصيبة لأنفسهم على أنفسهم، بعجزهم عن بناء استراتيجية وطنية ناضجة؛ بفشل فصائلهم في تقديم الدليل على أن زمرة «الأمناء العامين» قادرة على إقامة كيان محترم. إلا أن الحق يظل حقا في النهاية.
البعض من الإسرائيليين المحترمين، ممن انشقوا عن القاعدة، يجرؤون ليس على مساعدة الفلسطينيين في التغلب على محنتهم مع أنفسهم، بل صاروا مدافعين عن «القضية الفلسطينية» وينتسبون لها، ليس نكرانا ليهوديتهم، أو إسرائيليتهم، بل دفاعا عنها. لقد رأوا كيف أن الباطل ينقلب على نفسه. فحاولوا الاستدراك لتقليص الضرر. صاروا يدافعون عن حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، وعن انسحاب إسرائيل من كل شبر من الأراضي التي احتلتها بعد الخامس من جوان عام 1967، وأن يُعطى فلسطينيو 48 حقوقا متساوية. على الأقل لكي لا تنهار إسرائيل على نفسها من الداخل، ولكي تشرّع بأن تكون كيانا محترما، لا يرتكب جرائم ضد الغير، ويحترم القانون مع نفسه.
ولكن الأوان قد فات، منذ أن قتل ياسر عرفات، ومنذ أن قتل إسحاق رابين. الجريمة أعلنت انتصارها النهائي في تلك الساعة. أعلنت انتصارها على «التنازلات». وخير ما فعلت الجريمة، هو أنها ظلت تكرر نفسها، وتنتخب عصابة يترأسها مخادع مثل رئيس الحكومة «بيبي». حتى ظهر هذه المرة بجلاء، على أنه رئيس عصابة، وليس رئيس حكومة. عصابة تريد أن تفصّل القانون على مقاسها.
في بعض أيام بيروت في الثمانينات، استخدمت إسرائيل ما أصبح يعرف بـ «القنابل الفراغية». إنها قنابل تشفط الهواء بما يكفي لكي تنهدم البنايات الأربع من تلقاء نفسها، إذا أُلقيت القنبلة في الوسط.
نتنياهو وعصابته، هم القنبلة الفراغية التي تهدم البنايات الأربع الإسرائيلية: المحكمة العليا، الكنيست، والحكومة، ودولة القانون.
المسألة هي أن كيانا قام على الكذب والجريمة، ما كان بوسعه إلا أن يُقيم مشروعا فاشلا.
للقطع مع ممارسات الماضي ومؤسساته : تونس ورؤية الهدم وإعادة البناء
تواجه تونس اليوم خياراً استراتيجياً في مسارها التنموي يتمثل في كيفية إعادة بناء الدولة وتح…